لا شك أن إيران مدرسة في علوم "اقتصاد الثعالب"، وهو اقتصاد يجمع ما بين تنظيم "الاقتصاد الموازي" أو الخفي (Hidden Economy) وإدارته العابرة للدول والبحار، وإنشاء خطوط الإمداد وشق الممرات البرية والبحرية والجوية له، وتأسيس الأسواق السوداء لتجارة المخدرات والتهريب، وإطلاق "البورصات الإصطناعية" الوهمية، لتأمين تدفق السيولة النقدية، "الكاش"، بالعملة الخضراء.
تستغل إيران جغرافيا واسعة لهذا الاقتصاد وتنشره بنجاح في أربع دول على الأقل، هي العراق واليمن وسوريا ولبنان، قلبت اقتصاداتها ومعيشة مواطنيها رأسا على عقب في عقد من الزمن، بعدما أنهكتها بالحروب والاغتيالات والعنف والترهيب واستغلال الظروف السياسية والطائفية وصولا الى انهيار عملاتها واقتصاداتها، الذي لم ينج منه الاقتصاد الإيراني المترنح على إيقاع العقوبات والقمع الداخلي.
يعتبر لبنان حالة نموذجية جلية لدرس ما يمكن أن يؤدي اليه "اقتصاد الثعالب"، مترافقا مع التفلت الأمني والانهيار السياسي والمالي والقضائي للدولة، واحتراق قيمة العملة الوطنية وودائع الناس داخل كومبيوترات البنوك وخزائنها التي ظن اللبنانيون أنها محصنة ولن تتعرض للسلب والنهب!
في النقاش البيزنطي اللبناني السائد منذ أكثر من ثلاث سنوات، والتضارب بالأرقام في شأن توزيع المسؤوليات عن الكارثة المالية والاجتماعية والمعيشية التي ألمّت باللبنانيين، ما بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف، وتاليا توزيع المسؤوليات عن تكلفة الخسائر، كثيرا ما يتغافل "خبراء الغفلة" عن مسؤولية المسار الطويل لقرارات "حزب الله" السياسية والعسكرية والأمنية في البلاد وخارجها عما آلت اليه البلاد، منذ عام 2005 خصوصا، ولفرض انتخاب رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، وصولا الى نهاية عهده ووعده اللبنانيين بمعيشة "جهنم"، الأمر الذي تحقق فعلا.
أدرك "حزب الله" مبكرا أن حجر الأساس لحرية تحركه وسيطرته المالية والاقتصادية المطلقة على البلاد، يقوم على بناء اقتصاد دويلته على السيولة النقدية "الكاش".
منذ سنوات طويلة، وقبل اكتشاف اللبنانيين أن ودائعهم طارت من البنوك التي ائتمنوها على تعويضات رواتبهم وحليب أطفالهم وجنى أعمارهم وإرث آبائهم وأجدادهم، وأن الفجوة المالية للدولة والمصارف تتجاوز 72 مليار دولار (ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لسنة 2021 ) بحسب آخر تقارير البنك الدولي، أدرك "حزب الله" مبكرا أن حجر الأساس لحرية تحركه وسيطرته المالية والاقتصادية المطلقة على البلاد، يقوم على بناء اقتصاد دويلته على السيولة النقدية "الكاش"، والتداول بحقائب الأوراق الخضراء، عملة "الشيطان الأكبر"، تفاديا للقيود المصرفية والعقوبات الدولية بهدف توزيع رواتب عناصره والمساعدات السخية لأنصاره وسراياه وأبواقه الاعلامية.
فهم "الحزب الذكي" أن القطاع المصرفي اللبناني الذي كان مضرب مثل في تطوره والتزام مقررات مجموعة العمل المالية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هو "العدو" في تلبيته متطلبات القوانين الدولية لمكافحة التهرب الضريبي وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب، من قانون الامتثال الضريبي للحسابات الخارجية (فاتكا – FATCA) وصولا الى قانونَي "قيصر" و"ماغنتسكي".
وتبينت له جليا ضرورة المضي في بناء قنواته و"مصارفه" المتخصصة حصرا بـ"اقتصاد الكاش"، خصوصا بعد ادراج البنك اللبناني الكندي على لائحة ممولي "حزب الله" وتوقفه عن الدفع وتصفيته بقرار أميركي عام 2011.
وبعدما اصطدمت تهديدات الحزب بحدود قدرات مصرف لبنان والمصارف لتسهيل بعض عملياته وتسديد رواتب ممثليه في مجلس النواب نقدا "كاش" في حينه، وجهت رسالة "مدروسة"، كناية عن عبوة ناسفة استهدفت المقر الرئيسي لبنك لبنان والمهجر "بلوم بنك"، يوم عطلة الأحد، غروب السادس من رمضان في 12 يونيو/حزيران 2016. يومذاك كان جليا أن تلك الرسالة، متقنة التوقيت والزمان والمكان. فكانت تلك العبوة الناسفة مؤشرا مهما لما تلا ذلك، وتحذيرا دمويا أخيرا للقطاع المصرفي ولمصرف لبنان للحد من التضييق على الحزب وصرف رواتب نوابه ووزرائه وأنصاره وعائلاتهم.
استمر الحزب في محاولاته الالتفاف على العقوبات الدولية الى أن أدرج "جمال ترست بنك" وثلاث شركات تابعة له على لائحة الإرهاب التي يصدرها مكتب مراقبة الأصول الخارجية "أوفاك" في أغسطس/آب 2019 بتهمة توفير خدمات مالية ومصرفية لمؤسسات تابعة لـ"حزب الله" (منها جمعية القرض الحسن)، ما أدى الى تصفيته واقفاله، والاضرار كثيرا بسمعة القطاع المصرفي اللبناني واعطائه إشارة النهاية لقطاع كان رائدا في الشرق الأوسط، وتبين أنه ذهب ولن يعود!
بعد ثلاث سنوات وأربعة أشهر على بدء الإنهيار النقدي والمصرفي والمالي والاجتماعي في أكتوبر/تشرين الاول 2019، وهو من أسوأ الأزمات التي عرفتها البشرية، كما يصفها البنك الدولي، يبدو "الحزب الحاكم" أكبر المستفيدين من إدارة العمليات النقدية بـ"الكاش الحلال" الذي يتحصل عليه أكان من طهران كما يعترف جهارا، أم باستيراد السلع والمواد الغذائية والأدوية وغيرها من إيران وبيعها، مستخدما شبكة معقدة من الشركات التجارية التابعة لهذا الغرض. واذ تبين منذ بدايات الإنهيار أنه يدير شبكة من الصرافين المضاربين امتصت السيولة بالدولار التي كانت متوافرة في حينه بأبخس الأثمان، لم يجرؤ القضاء اللبناني على المضي في محاسبة المتورطين. أضف الى أن ما سبق هو نقطة في بحر عمليات التهريب المنظمة جدا وتجارة الممنوعات على أنواعها، في دويلته وعبر معابره وحدوده الدولية الخاصة.
تمضي "جمعية القرض الحسن" في توسيع أعمالها وفروعها "المصرفية"، التي بلغت أخيرا 31 فرعا، منها فرع جديد في مصيف سوق الغرب في جبل لبنان، مستفيدة من ضعف المصارف وتراجع دورها.
وفي وقت أقفلت المصارف اللبنانية، منذ عام 2020، العشرات من فروعها ورفعت السواتر الحديد المحكمة حول ما تبقى منها خوفا من مودعيها المسروقين الغاضبين، وتحولت الى دكاكين عملة بلا ودائع ولا قروض، تمضي "جمعية القرض الحسن" التابعة لـ "حزب الله" في توسيع أعمالها وفروعها "المصرفية" التي بلغت حتى فبراير/شباط الفائت واحدا وثلاثين فرعا، مستفيدة من ضعف المصارف وتراجع دورها، وتحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقدي بالكامل، ليس فقط بالليرة بل بالدولار، وباتت خدمة الصرّافات الآلية التابعة لها متوافرة في معظم فروعها تهدي إلى زبائنها "الدولار الطازج".
منذ تأسيسها وفّرت "جمعية القرض الحسن" نحو مليوني قرض، بقيمة تفوق 4,35 مليارات دولار، مكفولة في معظمها بالمصوغات الذهبية العينية، فيما تخطى عدد "المساهمين والمتعاملين والمشتركين" معها نحو 400 ألف، كما تفيد أرقامها المعلنة. وفي خريطة انتشارها الجغرافي تعتبر "القرض الحسن" أنها "الصورة الحسنة" الظاهرة للعيان كرأس "الاقتصاد الموازي" القائم، وما خفي أعظم! وهي بدأت أخيرا تنفيذ خطة انتشار في مناطق جديدة، وتحديداً في مصيف سوق الغرب في جبل لبنان، ما طرح تساؤلات عن نشاطها في منطقة غريبة عن البيئة الحاضنة للحزب وسط غالبية مسيحية ودرزية معارضة، في إشارة الى تمدد "اقتصاد الحزب" نحو بيئات مختلفة.
لا عجب إذا تدهور موقع لبنان في مؤشر منظمة الشفافية الدولية من المرتبة 83 في عام 2005 الى المرتبة 150 في عام 2022، وصار"مرصد لبنان الاقتصادي" للبنك الدولي يقارن بين لبنان ومجموعة مختارة من الدول الهشة مثل زيمبابوي واليمن وفنزويلا والصومال، ويخلص إلى أن أداء الاقتصاد الكلي في لبنان أسوأ - أو - في أحسن الأحوال - على قدم المساواة مع هذه البلدان.
لبنان ذاهب أكثر فأكثر نحو "اقتصاد الكاش"، ومزيد من "الدولرة"، كما يتوقع المرصد، حتى بعد فترة التعافي إن حصل شيء منه على يد المافيا الحاكمة، ومع توقع بلوغ الكتلة النقدية المتداولة نحو 100 تريليون ليرة لبنانية، مقارنة بستة تريليونات فقط قبل الأزمة، ما يعني مزيدا من طباعة النقد، والمزيد من انخفاض قيمة الليرة والمزيد من "العمليات المسمومة" اقتصاديا ونقديا، لاقتناء الدولار الأميركي الذي صار الأسبوع الماضي عملة التسعير الرسمية المعلنة على السلع في السوبر ماركت، وبقرار رسمي من وزارة الاقتصاد والتجارة، أول من نوعه في لبنان وبغطاء رسمي لحكومة دولة الحزب الحاكم "حزب الكاش".