تشغل الفلسفة في ذاكرة العرب والمسلمين محطات متعددة، وجدالا لا يكاد يستقر، لعل إحدى ذرواته المعبّرة مجادلة ابن رشد والغزالي، حول "تهافت الفلاسفة"، و"تهافت التهافت"، التي ستصير، ولقرون لاحقة - ضمن مجادلات أخرى- أساسا مركزيا للنقاش حول جدوى الفلسفة بصفة عامة، وعلاقتها بالإسلام بصفة خاصة. من هنا، يمكن تفهم النظرة التاريخية المحافظة في السعودية، وبلدان عربية أخرى، تجاه الفلسفة، وما تثيره من "قلق" لدى بعض الفئات الاجتماعية.
بدايات متتابعة
مع استقرار التعليم في المملكة العربية السعودية، وتوالي موجات الابتعاث للدراسة في الخارج، الممولة حكوميا في الغالب، انطلاقا من ستينات القرن العشرين وسبعيناته، بدأ الانتباه إلى حضور الفلسفة، وإن من دون اسمها. فعلى سبيل المثل باتت طرق الاستدلال، مثل الاستقراء والاستنباط والقياس، جانبا ظاهرا في علوم الرياضيات والعلوم الاجتماعية، وازداد الوعي بملاحظة تطبيقاتها في علوم تقليدية مثل النحو وأصول الفقه. كما أصبح ظاهرا أن العدد الأكبر من النظريات الرئيسة في العلوم الاجتماعية، ومناهج البحث العلمي، أتى ضمن سياقات فلسفية، بما بتعذر معه فهمها من دون إدراك طبيعة سياقها الفلسفي. فصار واضحا أن فصل الفلسفة عن العلم إجراء مستحيل عمليا، وبات من المهم التمييز بين مقبول ومرفوض في الفلسفة.
شكّل منبر المهرجان الوطني للتراث والثقافة، "الجنادرية"، الذي انطلق برنامجه الثقافي منتصف الثمانينات من القرن الماضي، محطة لطرح فلسفي، ضمن طروحات عدة أخرى، ومع تحول معرض الرياض للكتاب إلى معرض دولي في منتصف العقد الأول من القرن الجديد، صارت العناوين الفلسفية جزءا من المكتبة المحلية، بعدما كانت كتب الفلسفة ممنوعة. وبين المحطتين علامات ومحطات عدة.
#فيديو | ختام مشاركة جناح #وزارة_التعليم في #معرض_الرياض_الدولي_للكتاب_2022.. pic.twitter.com/0fcWBjhSDx
— وزارة التعليم - عام (@moe_gov_sa) October 9, 2022
خلال عامين من تحول المعرض الدولي، أي عام 2008، انطلقت حلقة الرياض الفلسفية، "حرف"، من خلال نادي الرياض الأدبي، لتشكّل أول تجمع محلي يعنى بالفلسفة، وفي الفترة نفسها أظهر نادي حائل الأدبي اهتماما بكتابات ومحاضرات في الفلسفة، ونظّم ندوة متخصصة لها. وتلاحق ظهور أنشطة مماثلة في مناطق أخرى، من أبرزها اطلاق منتدى "ايوان الفلسفة" تحت مظلة نادي جدة الأدبي، و"الحلقة المعرفية" في المنطقة الشرقية، و"ملتقى السلام الفلسفي" ضمن نادي نجران الأدبي، فضلا عن الاسهامات النوعية لمركز الملك عبد العزيز الثقافي في الظهران، "إثراء"، من برامج ومحاضرات متخصصة. صار الحديث في الفلسفة، وعنها، خارج قاعة المحاضرات الجامعية، ووسط تفاعل اجتماعي، ولو ضمن نخب متخصصة.
في نهاية عام 2018 أعلنت وزارة التعليم السعودية إدخال مادتي الفلسفة والقانون في مناهج المدارس الثانوية، وشكّل ذلك نقطة تحول تاريخي في العلاقة بين البيئة المحلية والفلسفة. لتشرع مدارس التعليم العام في تدريس مبادئ الفلسفة والتفكير النقدي، مستهدفة إحداث تطور جوهري في التحول من تعليم يلقّن الدارس، إلى تعليم يحثه على التفكير والتساؤل والاستنتاج. وهو تطور يأتي في سياق حالة تحول عامة في ظل رؤية المملكة 2030 التي دعمت حقوق المرأة، وطوّرت المنظومة التشريعية، وأعادت ترتيب السياسة الاقتصادية، واطلقت برامج غير مسبوقة في مجالات الترفيه والثقافة والرياضة والسياحة.