مدخل إلفينستون

مدخل إلفينستون

ما الذي يمكن أن أفعله بوصفي روائية على نحو خاص، وأنا أتتبع الأمكنة بأسمائها الملتبسة والمتناقضة، أثناء كتابتي عن ملامح واضحة لرواية أصنع فيها علاقة بين الاسم والمكان؟ مثل تلك الجزيرة الواقعة وسط الجبال، التي أطلق عليها الإنجليز يوما جزيرة التلغراف بعدما كانت تسمى "مقلب".

كانت رحلة بحرية قصيرة من رأس الخيمة شرق دولة الإمارات إلى مسندم شمال عُمان، ليشق القارب السريع الماء بين الدلافين الراقصة حتى العبور إلى مدخل إلفينستون، وحوله الجبال الممتدة بخنادقها اللانهائية، لتتضح صخرة جبلية صغيرة وسط الماء، ربما كانت قمة جبل خرجت من قاع البحر، لتبدو لنا من السطح جزيرة بشواطئ صخرية، وهنا كل النظريات الجغرافية المتخيلة ممكنة، طالما لم يكتب عنها أحد سوى شذرات قبعت أوراقا يتيمة في الأرشيف البريطاني، أو كما يقول ألبرت آينشتاين: "إذا لم يوافق الواقع النظرية، غَيّر الواقع".

مدخل ألفينستون لا يزيد على 16 كيلومترا، بينما المنحدرات الصخرية حوله تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف متر، لمنطقة تدعى جغرافيا "رؤوس الجبال"، تكاد تغيب في المصادر العربية من حيث كتابتها تفصيليا. على الرغم من أنها منطقة طبيعية لا تشبه سواها، وهذا حديث الزائر الآتي والمتأمل وجوه جبالها المهيبة، متجولا دون ملل، مندهشا ومتعجبا كيف ظلم الإنجليز أهلها حين وصفوهم بالوحشية مثل جبالهم، إلا أن تناقضاتهم تبقى واضحة، لأنهم كتبوا أيضا عن قوة هذه القبائل في الجبال، وأن أهلها مستقلون وأقوياء ولا يحكمهم أحد.

أما من ناحيتي الآن بوصفي روائية فيهمني أن أبحث في الأسماء التي أطلقها المستعمرون على الأراضي التي تحكموا بها يوما، والملاحظ لديَّ أنها أسماء لم تكن تعني الأمبراطور وأسرته، وبالتالي هي أسماء من الضرورة معرفتها.

من هؤلاء؟ وماذا فعلوا ليستحقوا الاستقرار اسما في هذه الأمكنة؟ لا بد أنهم أثاروا إعجاب الآخرين إلى درجة إطلاق اسمهم عليها. أما ألفينستون فلم يكن (مدخل ألفينستون) عند بوابة المضيق الهرمزي وحسب، وجدته أيضا على كلية في الهند، وشارع وضاحية، وبلدة في أستراليا، وله تمثال في كاتدرائية بلندن.

ليتطور سؤالي مِنْ: مَنْ يكون إلفينستون؟ إلى ما دوره الاستعماري؟

إلفينستون من بين الأسماء التي مجّدتها إنجلترا، ليس لأنه خدم فترة الاستعمار كنائب عن بلاده، بل لأنه كان مستقلا في آرائه التي ساعدت في إطالة عمر وجود بلده في أراضي المناجم والخيرات


الإسكتلندي ماونتستيورات إلفينستون كان في القرن التاسع عشر حاكما بريطانيا في بومباي (مومباي) بالميم حاليا، ولم يكن حاكما عسكريا فقط كسابقيه، بل كان مثقفا وكاتبا، شجع التعليم بشكل واسع في الهند، وأَصرّ في وقت كان الرأي في بريطانيا ضد تعليم "السكان الأصليين"، فكان منجزا باعتباره مؤسسا لنظام التعليم الحكومي في الهند، بالإضافة إلى إعادته أراضي الهنود التي استولى عليها البريطانيون هناك، وبنائه مكانا عصريا في مليبار لا يزال إلى وقتنا الحاضر، ما جعله متربعا في الذاكرة.

إلفينستون من بين الأسماء التي مجّدتها إنجلترا، ليس لأنه خدم فترة الاستعمار كنائب عن بلاده، بل لأنه كان مستقلا في آرائه التي ساعدت في إطالة عمر وجود بلده في أراضي المناجم والخيرات، فبات من جهة يدعم دولته في الهند ليتسنى للبريطانيين أخذ خيراتها لأطول فترة ممكنة، ومن جهة أخرى افتتح مجموعة من المؤسسات التعليمية للهنود، وكتب كتبا عن الهند وأفغانستان، هي ثقافة واطلاع وأعمال كتابية من ذلك النوع الذي يدور حول السلطة والاستعمار، من حيث فرض اللغة والأسلوب المعاصر، وهنا يصبح رجال الاستعمار فاعلي خير لمصلحة بلدانهم، كما حصل مع إلفينستون وجعله يحصد شعبية في الهند.  

شهرة إلفينستون بقيت سنوات خلافا لمن سبقه أو جاء بعده من الحكام. فحتى بعد وفاته، لم تنطفئ ذاكرته، ليتم تسمية مدخل بحري على الخليج العربي باسمه. هذه المنطقة المدهشة بجبالها الرمادية وخواصها الجيولوجية، وخطوطها كفن تشكيلي، كان الضياع في أغوارها الصعبة يوما من نصيب السفن البرتغالية، إلا أن المسح البريطاني الجغرافي فيها عام 1820 أتى بنتائجه وساعد البريطانيين في التحكم والسيطرة، واختاروا جزيرة مقلب وهي اليوم التلغراف، لتصبح موقعا لمحطة، بهدف تعزيز سرعة الرسائل التلغرافية، ويكون هذا الموقع جزءا لإمدادات "الكابل" الخاص بالتلغراف من لندن إلى كراتشي، على منعطف الطريق للخارجين من بوابة الخليج، ويصبح المدخل إسما لإلفينستون، ومحطة لإعادة إرسال التلغراف بين عامي 1864 و1868 بنتها إدارة محطة التلغراف (الهندو أوروبية) التابعة لحكومة بريطانيا. كانت موقعا بديلا في أقصى شمال شرق الخليج العربي، بعد انهيار المفاوضات مع الحكومة الفارسية ليتم تشغيل الكابل بين البحرين ومسندم ثم جوادر.

تبقى هذه المنطقة جوهرة نادرة، بدءا من قبائلها بعقلياتها المستقلة، كما ذكر الأرشيف البريطاني، إلى قمة رؤوس الجبال التي يصعب على الزوار الوصول إليها، بينما أهلها يمشون على الطرق الوعرة بكل سهولة، صعودا ونزولا، فهم مالكو الجبال منذ قرون بعيدة.

ولطالما راودتني فكرة المسميات، ومدى قبول الجيل الإنجليزي المثقف في الوقت الحالي، ومدى اقتناعه بإطلاقها على الكليات والقرى والأمكنة، وهو يعلم أنها أسماء عسكرية فرضت وجودها على الآخرين وثقافتهم. فاليوم تسمى الأمكنة المهمة على أسماء مبدعين في الموسيقى والأدب والفن... لا بد أنهم لم يعودوا معجبين بما فعل إلفينستون، وأصبحوا يرفضون تاريخ تحكمهم، وعبث التوثيق، والأسماء.

font change