بيد أن ذلك أدى عمليا إلى إنشاء حدود جمركية في البحر الأيرلندي بين شطري المملكة المتحدة، ما أثار غضب الاتحاديين الإيرلنديين الشماليين والمتشددين المحافظين، الذين رأوا أن ذلك يفصل المقاطعة عن باقي المملكة المتحدة. وقد ساعد هذا في إخراج اتفاق ماي المقترح مع الاتحاد الأوروبي عن مساره خطة المحافظين المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولا سيما مجموعة الأبحاث الأوروبية القوية (ERG) لإطاحة ماي في 2019.
وعد بوريس جونسون، الذي انتخب خلفا لماي، الاتحاديين والشركات الأيرلندية الشمالية بأنه لن يسمح بحدود جمركية في البحر الأيرلندي، لكنه تراجع عن هذا الوعد عندما وافق في النهاية على صفقة طلاق مع الاتحاد الأوروبي. على عكس ماي، كانت لدى جونسون غالبية برلمانية كبيرة، فاز بها بعد فترة وجيزة من تسلمه منصبه خلفا لها، ما عنى أنه كان قادرا على الحصول على موافقة البرلمان على اتفاقه مع الاتحاد الأوروبي ليصبح قانونا. ولكن على الرغم من الإشارة خلال الحملة الانتخابية إلى أن لديه صفقة "جاهزة في الفرن لبريكست" يمكنها أن تحلّ المشكلات بطريقة ما، خاصة في أيرلندا الشمالية، فقد انتهى به الأمر في الواقع إلى التفاوض على شيء مشابه جدا لاتفاق السيدة ماي. كان الاختلاف الرئيسي هو "بروتوكول أيرلندا الشمالية"، الذي وافق على مواءمة أيرلندا الشمالية بشكل دائم مع الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة، وليس فقط بشكل موقت كما في اتفاق ماي. لكن ذلك كان يعني، في جملة ما يعنيه، إجراء فحوص جمركية لجميع البضائع التي تدخل موانئ أيرلندا الشمالية، سواء تلك التي ستبقى في المقاطعة أو تلك التي ستنتقل إلى جمهورية أيرلندا، مما كان يتسبب في تأخيرات كبيرة ومعاملات معقدة، ويدفع العديد من الشركات البريطانية إلى التوقف عن الشحن بسبب التكاليف الباهظة.
عودة الراشدين
حنث جونسون بوعده للاتحاديين في شأن الحدود الجمركية في البحر الأيرلندي وللشركات بأن تكون التجارة خالية من الاحتكاكات. لم تكن مثل هذه الوعود الكاذبة مفاجئة، بالنظر إلى سلوك جونسون السابق. لقد كان العضو الأشهر في حملة "بريكست" في استفتاء عام 2016، حين قدم ادعاءات جريئة حول المستقبل المزدهر الذي ينتظر بريطانيا إذا غادرت الاتحاد الأوروبي. ووعد النشطاء بأنه يمكن تحويل 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً من الاتحاد الأوروبي إلى الخدمات الصحية القومية (NHS)، وأن التجارة لن تنقطع بسبب البريكست؛ بل وعد، على العكس، بأن تصبح بريطانيا أكثر ثراءً نتيجة لذلك. سوى أن أيا من تلك الوعود لم يكن صحيحا. لم تحصل الخدمات الصحية على أموال إضافية، بل أصبحت أضعف بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عندما لم يعد في إمكانها تعيين موظفين أوروبيين أساسيين بسهولة، وتراجعت التجارة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بنحو الخمس، وأثرت الأوراق الجمركية الجديدة (مثل تلك الموجودة في أيرلندا الشمالية) على الربحية، بينما عانى الاقتصاد البريطاني بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث كان الأدنى أداءً في مجموعة السبع، ولم يشهد كغيره انتعاش ما بعد كوفيد الذي حصل في أماكن أخرى. باختصار كان الوضع أبعد ما يكون عن وعود جونسون بالازدهار.
مع ذلك، نفى رئيس الوزراء جونسون، مثله مثل العديد من نوابه المتشددين المؤيدين لبريكست، أن تكون صفقته هي المسؤولة عن المشاكل. في بعض الأحيان، كان هذا يعني تعزيز الخطأ بدلا من إصلاحه، والتحدث عن "بريطانيا العالمية" وتسليط الضوء على العديد من الفوائد المفترضة التي جلبها خروج بريطانيا. وقد صفّق الوزراء لهذه الصفقات التجارية الجديدة، على الرغم من أن غالبية هذه الصفقات كانت ببساطة تكرارا للعلاقات التي كانت بريطانيا تتمتع بها سابقا كجزء من الاتحاد الأوروبي ولم تجلب أي فوائد جديدة. كان الافتقار إلى المزايا الواضحة هو ما دفع جونسون إلى إنشاء وزارة لمزايا بريكست، ولجأ الوزير المكلف، جاكوب ريس-موغ، إلى نشر إعلان في إحدى الصحف يطلب من القراء إرسال اقتراحات في شأن لوائح الاتحاد الأوروبي التي كانوا يريدون إلغاءها.
لكن المتشدّدين كانوا في حالات كثيرة يقرّعون بروكسل، وكانت تلك متعتهم الرئيسية إبّان حملة الاستفتاء ومفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وعلى مدى عقود قبل ذلك. وألقى جونسون، بشكل لا يصدق، باللائمة على الاتحاد الأوروبي في الصعوبات التي تسبب بها بروتوكول أيرلندا الشمالية، على الرغم من أنه هو من اقترحه وأصر على وصفه – عندما وقّعه – بأنه "ترتيب جيد... مع الحد الأدنى من العواقب البيروقراطية المحتملة". وفي أيرلندا الشمالية، عبّر الحزب الوحدوي الديموقراطي الذي تعرّض للخيانة عن غضبه من خلال التخطيط لانهيار مجلس تقاسم السلطة في أيرلندا الشمالية، في حين أصر أنصار البريكست المتشددون على جونسون أن يعيد التفاوض بقوة مع الاتحاد الأوروبي. وقد فعل ذلك، حيث قدم مشروع قانون بروتوكول أيرلندا الشمالية، مهددا من جانب واحد بتجاوز الكثير من الاتفاقية مع بروكسيل، للتغلب على "الحواجز غير المقبولة أمام التجارة". وعلى الرغم من أن ذلك ينطوي على انتهاك للقانون الدولي، وعلى إلحاق الضرر بسمعة بريطانيا العالمية ويخاطر بحرب تجارية مع الاتحاد الأوروبي ردا على ذلك، فإن جونسون وخليفته التي لم تعمّر طويلا ليز تراس دفعا مشروع القانون، وأصرّا على أن هذا سيجبر بروكسل على التنازل.
لذلك، يمكن اعتبار إطار عمل وندسور الذي حققه ريشي سوناك خروجا تاما من حيث المحتوى والأسلوب. وفقا للاتفاقية، ستعمل بروكسل ولندن على تقليل الفحوص الجمركية بشكل كبير. ويشمل الاتفاق نوعين من الممرّات التجارية: الممرّات "الخضراء" للبضائع التي ستبقى في أيرلندا الشمالية، وهي بدون ضرائب، وممرّات "حمراء" لتلك التي ستصدّر إلى جمهورية أيرلندا والاتحاد الأوروبي. الأهم من ذلك أنه يتضمن أيضا "فرصة" تسمح لجمعية أيرلندا الشمالية في ستورمونت (البرلمان) بالتصويت ضدّ إدخال أي قوانين جديدة للاتحاد الأوروبي لا توافق هي عليها، في محاولة لاسترضاء الاتحاديين في أيرلندا الشمالية. ولم يوافق البرلمان البريطاني أو السياسيون في أيرلندا الشمالية على هذه "الفرصة" بعد، لكنها ستكون انتصارا لتسوية متوازنة في حال المصادقة عليها. وكما لاحظ الصحافي الأيرلندي فينتان أوتول، كان من الممكن اعتماد هذا الحلّ قبل عامين، سوى أن جونسون و"مجموعة الابحاث الاوروبية" النافذة وبعض الاتحاديين أعمتهم حماستهم المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في المقابل، يبدو أن سوناك قد تبنى الواقعية لإيجاد حل عملي.
قليل من الثناء
يستحق سوناك الثناء على هذا الإنجاز. خاصّة أنه اضطرّ إلى مواجهة بعض المتشددين المساندين للانفصال في حزب المحافظين الذي ينتمي إليه، بمن في ذلك جونسون الذي لا يزال يحتفظ ببعض الدعم وقد صرّح أنه لا يصوت لصالح الاتفاق في البرلمان. كما خاطر سوناك بإثارة غضب الوحدويين في أيرلندا الشمالية، سواء من الحزب الديمقراطي الاتحادي أو سواه من الأحزاب اليمينية، الأمر الذي قد يؤرقه حتى الآن. أكثر من ذلك، تجرأ سوناك أيضا على كسر هيمنة المتشددين على حزب المحافظين منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والاقتراب من سياسة الوسط في المملكة المتحدة.
ومن المؤشرات إلى ذلك تخليه عن مشروع قانون بروتوكول أيرلندا الشمالية بعد أيام من الموافقة على إطار عمل وندسور. مع ذلك، يجب عدم الإفراط في المديح، فسوناك، بداية، ليس دخيلا على الوسط الحاكم. فهو نفسه مؤيد لبريكست وسبق أن خدم كمستشار لجونسون، ووافق على جميع سياسات رئيس الوزراء ومناهجه، بما في ذلك اتفاق الطلاق مع الاتحاد الأوروبي وبروتوكول أيرلندا الشمالية. إذاً، ما يفعله سوناك، من حيث الجوهر، لا يزيد على كونه إصلاحا لمشكلة هي جزئياً من صنعه.
ثانيا، رئيس الوزراء مدفوع بالحاجة وليس بالإيثار. فحزبه يتأخر بـ 20 نقطة في استطلاعات الرأي عن منافسيه، وتقف الموافقة عليه شخصيا عند حدود 26 نقطة مئوية. ويعتقد معظم البريطانيين أن فوز حزب العمال المعارض في الانتخابات المقبلة أمر لا مفر منه، ما يجعل سوناك مكرها على أن يلقي النرد في محاولة يائسة لتغيير الخط. لم يعد انفصال بريطانيا والعداء لبروكسل هما العاملين الحاسمين في التصويت كما كانت الحال مع جونسون، لذلك يضطر سوناك إلى تغيير الدفّة، إذ أن تركيز معظم الناخبين ينصب على الاقتصاد الذي يعاني بشدة.
يفتح إطار عمل وندسور الباب أمام تجارة أفضل لأيرلندا الشمالية واستثمارات أكبر في المقاطعة، كما أشارت بالفعل إدارة بايدن، وعلاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي قد تؤدي في النهاية إلى تحسين الروابط التجارية. ولكن من المحتمل ألا ينجح هذا كله، وقد يكون زعيم حزب العمال كير ستارمر، إذا احتل منصب رئيس الوزراء المقبل، هو من سيجني الفوائد الاقتصادية والديبلوماسية لتحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. لكن سوناك عامل حاذق ويعرف أنه إذا قام بتحسين موقف المحافظين الكارثي الحالي وقارب نتائج في الانتخابات المقبلة، فسوف يحسّن فرصه في البقاء على رأس الحزب.
وفي حين يمكن للندن أن تفطم نفسها عن الأوهام غير الواقعية، فإن هذا قد لا ينطبق حتى الآن على الاتحاديين في بلفاست، إذ لا يزال في إمكان الحزب الاتحادي الديمقراطي والمتشددين الآخرين معارضة التغييرات ورفض الدخول مرة أخرى إلى برلمان المقاطعة (ستورمونت)، تاركين السياسة الأيرلندية الشمالية في حال من الشلل. مع ذلك، فإنهم هم أيضا سيستفيدون من تفحص الواقع. فكما ورد على نطاق واسع، تتغير التركيبة السكانية والمواقف في أيرلندا الشمالية. وللمرة الأولى منذ تقسيم أيرلندا، بات عدد الكاثوليك الآن يفوق عدد البروتستانت في المقاطعة، بينما يتضاءل الالتزام بالاتحاد، ولا سيما بين الشباب. وأظهر استطلاع حديث للرأي أن غالبية سكان أيرلندا الشمالية يتوقّعون الوحدة مع جمهورية أيرلندا في غضون عقد من الزمن. ومن المفارقات بالنسبة إلى الاتحاد الديمقراطي الاتحادي، الذي دعم بريكست، أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي سيلعب دورا في خروج أيرلندا الشمالية من المملكة المتحدة. فعندما كانت بريطانيا جزءا من الاتحاد الأوروبي، بدا انفصال المقاطعة وانضمامها الرسمي إلى بقية أيرلندا أقلَّ إلحاحا نظرا للتفاعل السلس الذي توفره السوق الموحدة. لكن بريكست تسببت في إنهاء هذا الأمر، وحتى مع الإطار الجديد، لن يكون من المستغرب أن يفكر المزيد من الأشخاص في الانضمام إلى الجمهورية ومعها يعودون إلى الاتحاد الأوروبي.
مثل هذا الانفصال سيكون، بالطبع، خيار شعب أيرلندا الشمالية، لكنه – إذا حدث – لن ينعكس جيدا على بريكست. على الرغم من الوعود بأنهار من اللبن والعسل، فإن حقيقة مغادرة الاتحاد الأوروبي كانت صعبة. يذهب "إطار عمل وندسور" إلى حد ما للتخفيف من بعض الآثار الأكثر قسوة، لكنه لن يعوض الخسائر الاقتصادية والديبلوماسية في السنوات القليلة الماضية. ربما يكون الأكثر أهمية من تفاصيل الإطار الجديد هو التغيير في نهج لندن والعلاقة المحسنة مع الاتحاد الأوروبي التي قد يجلبها. الآن بعدما عاد الراشدون، على ما يبدو، إلى السلطة في لندن، قد يكون لدى المملكة المتحدة حظ أكبر في جعل بريكست ناجحا، أو، على الأقل، جعله يعمل بشكل أفضل مما كان عليه حتى الآن.