التحالف الاصولي - الوصولي الذي أطبق على مقدرات لبنان أوهم الناس بأن اقتناءه للسلاح وانتشاره في الاقليم هو لإحقاق "السلام الشامل"، وبأن تركه أمور النقد للمصرف المركزي حيث القيمون عليه أصحاب باع واختصاص بقضاياه هو لتحقيق "الرخاء الشامل". إلا أن المحصلة كانت "دمارا ماليا شاملا" قضى على مداخيل الناس ومدخراتهم، من خلال أكثر أسلحة الدمار الشامل فتكا عرفته البشرية وهو سلاح تدمير النقد الوطني.
لينين كان السبّاق في الاشارة الى هذا الأمر فقد ذكر "أن اكثر وسيلة فاعلة في تدمير مجتمع ما هي تدمير نقده". ذات التوجه أومأ اليه الاقتصادي الانكليزي الشهير جون مينارد كينز الذي أشار الى "عدم وجود وسيلة أكثر دقة وخفية للاطاحة بالنظام في أي مجتمع أجدى من إفساد نقده".
الاصوليون المتحكمون بلبنان والمتمثلون بجماعة "حزب الله"، ظهروا بداية في منطقة البقاع - الهرمل شمال شرقي البلاد كفيلق مسلح أنشاه الحرس الثوري الإيراني، بعيد الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982، بهدف تنظيم عملية "مقاومة اسلامية" للاحتلال ودعمها وتدريبها. وقد تمدد الحزب لاحقا باتجاه الجنوب ثم الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت حيث مقر أمينه العام.
الشعار الذي رفعه حزب الله في البداية كان التقيد المطلق بالمقاومة العسكرية للعدو بأوامر الولي الفقيه في إيران من دون الإنزلاق إلى الحياة السياسية اللبنانية. لكن سريعا ما عدل عن الشق الاخير بعد مرحلة من العمليات العسكرية ضد اسرائيل كانت ضرورية لاكتساب تأييد راجح لدى بيئته على حركة "أمل" وعلى حسابها، انتهت بتحالف الاثنين ضمن إطار أطلق عليه تسمية "الثنائي الشيعي". فخاضا الانتخابات سوية وكانت مواقفهما السياسية متماهية والأصح واحدة بإذعان من رئيس حركة "أمل" نبيه بري، هو رئيس مجلس النواب منذ أكثر من ثلاثة عقود، لحليفه حسن نصر الله، أمين عام الحزب، عملا بالقول المأثور للرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال ديغول، ومضمونه أنه "عند أي شراكة بين رجلين هناك على الدوام رجل يخضع للآخر" فكيف إذا كان هذا الآخر، في الحالة اللبنانية، مدججا بالسلاح ويتباهى علنا بأنه يملك مئة ألف صاروخ الى جانب مئة الف مقاتل.
الترسانة العسكرية المذكورة استعملها ويستعملها "حزب الله" الى آخر مدى ضد شركائه في الوطن. فقد اجتاحت عناصره في 7 مايو/أيار 2008 شوارع العاصمة بيروت وبعض مناطق جبل لبنان ردا على قرار الحكومة مصادرة شبكة اتصالات غير شرعية تابعة لسلاح الاشارة الخاص بالحزب، في رسالة واضحة للجميع مفادهها "أن الأمرة له (الحزب) في النهاية".
كما استقوى الحزب بواقعه العسكري لفرض انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للبلاد عام 2016 وقد أقر بذلك صراحة أحد نواب الحزب نواف الموسوي تحت قبة البرلمان في اجتماع للأخير بتاريخ 13 فبراير/شباط 2019، إذ ذكر "أن الرئيس عون وصل للرئاسة ببندقية المقاومة".
وكان هناك على الدوام تملق للحزب من قبل مرشحين وصوليين لتشكيل الحكومات طمعا في منح نواب "الثنائي الشيعي" الثقة للتشكيلة الحكومية التي سيقدمونها. لا بل أن اجتماعات الحكومات ومثلها اجتماعات المجلس النيابي، تجري على وقع شريعة آل كابوني (Al Capone) في التخاطب والنقاش، ومضمونها "أن المرء يستطيع الحصول بكلمة طيبة ومسدس على أمور أكثر بكثير فيما لو نطق بالكلمة لطيبة فقط" ، فكيف إذا كان الأمر ترسانة عسكرية تفوق عديد الجيش اللبناني.
هناك أيضا سياسيون وصوليون يطمعون بدعم الحزب لترشحهم لمنصب رئاسة الجمهورية، في مقدمهم النائب جبران باسيل الذي تباهى علنا "بأن لشخص السيد حسن (أمين عام "حزب الله") مكانة خاصة في عقله وقلبه ويفكر به بشكل مختلف عن كل الناس..."
الوصوليون لم يكونوا على الدوام من السياسيين بل كانوا أيضا من المصرفيين الذين لفتتهم الكتل النقدية الضخمة التي يتعامل بها الحزب، فعمدوا الى تقديم شتى المغريات لجذبها إلى مصارفهم، في مقدمها التمويه بأسماء مختلفة عن مالكيها الحقيقيين لحمايتهم من الملاحقات الأميركية. معلوم أن موارد الحزب تتنوع من دعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني ومسروقات المصرف المركزي العراقي في المرحلة الاولى، ولاحقا من إيرادات ترويج الكبتاغون والممنوعات الأخرى وأموال القرض الحسن وإيرادات الخمس المفروضة بحسب الفقه الشيعي، والتحويلات المالية لنشطاء الحزب وداعميه في دول جنوب أفرقيا وأميركا الجنوبية وغيرها.
سريعا ما كشف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية تورط مصرفين لبنانيين بعلاقات مالية مشبوهة مع الحزب، فكان قراره وضعهما على لائحته للمؤسسات المحظور التعامل معها، تبعه قرار شطبهما من لائحة المصارف اللبنانية من قبل المصرف المركزي اللبناني.
ومؤخرا أدرج المكتب الاميركي المذكور على لائحة عقوباته مؤسسة "سيتيكس" CTEX للصيرفة واتهمها بـ "لعب دور رئيسي في تمكين حزب الله من الاستمرار في استغلال الأزمة الاقتصادية في لبنان وتفاقمها"، وتم على إثر ذلك شطب المؤسسة من لائحة مؤسسات الصيرفة العاملة في لبنان.
النائب اللبناني السابق ياسين جابر ذكر في حديث صحافي لـموقع "أساس" في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 "أنّ السلطة السياسية تخلّت ومنذ زمن، وبإرادتها، عن دورها، وتركت الأمر للمصرف المركزي بشرطين: أولا، المحافظة على استقرار سعر صرف الليرة على الـ1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، وثانيا، تأمين الدولارات لسدّ عجز الموازنة وتمويل مشاريع نخرها الفساد واستفاد منها الجميع. فطالما بادر المصرف المركزي إلى تأمين هذين المطلبين، بقي بمنأى عن المساءلة من قبل الجميع".
استنادا لهذا التنازل الضمني، عمل المصرف المركزي على استقطاب ملتبس لودائع الجهاز المصرفي بالعملات الأجنبية لتأمين موارد لعملياته في سوق القطع بهدف تثبيت سعر صرف لليرة مبالغ فيه ولتوفير متطلبات الخزينة لعامة من هذه العملات، بالشكل، لكن ضمنا بالمضمون، لتمويل فساد التحالف الأصولي-الوصولي. ايضا كان هناك أيضا تمويل لمستلزمات عمليات دعم رجحت فيها عمليا مصالح التحالف والتجار والمحتكرين والمهربين والمستهلكين على مصالح الطبقة الفقيرة المحتاجة والمنتجين. وجرى استقطاب موارد المصارف بالعملات الأجنبية من خلال إغراء الأخيرة بمعدلات فوائد مرتفعة على إصدارات مصرف لبنان، تدفع باستمرار من الموارد المتأتية من المكتتبين الجدد بها وفقا للأنموذج المعروف بـ"بونزي سكيم" Ponzi scheme نسبة الى تشارلز بونزي Charles Ponzi الذي كان يغري من يدير استثماراتهم بأرباح مرتفعة تمول من تدفق راس المال من مستثمرين جدد لحين انفجار الفقاعة واكتشاف زيف إدارته ووعوده .
أبرز نماذج "البونزي سكيم" كشفت عنه الأحداث الأميركية عام 2008 وهو صندوق استثمارات يديره الرئيس السابق لبورصة "ناسداك" الاميركية برنارد مادوف وحكم عليه بالسجن لمدة 150 عاما. بيد أن الفرق بين الحالتين الاميركيتين السابقتين والحالة اللبنانية، أن المعني في لبنان هو مصرفه المركزي وليس فردا أو مؤسسة خاصة. من هنا كان الدمار المالي أكثر شمولا وأكثر فداحة!