احتدم الجدل أخيرا حول شخصية معاوية بن أبي سفيان، حين أعلنت مجموعة "أم بي سي" تقديم عمل درامي يتناول سيرة الصحابي الجليل في شهر رمضان المقبل.
انطلق الشدّ والجذب والسجال حول هذا العمل من دوافع طائفية، ومنطلقات عقائدية دينية، تنبعث في أغلبها من ظروف تلك الحقبة العصيبة في تاريخ المسلمين، التي تسمى بـ"أحداث الفتنة"، حين دخلت الجزيرة العربية في حال من الفوضى والاضطراب بعد مقتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان، فانفرط عقد الجماعة، ودبّ الخلاف بين من يرى ضرورة إقامة السلطة والبيعة، ومن ينادي بالثأر والقصاص من قتلة عثمان أولا قبل كل شيء.
منعطف تاريخي
هذه الأحداث وما تلاها، كان لها أثر كبير في مسيرة الفكر المسلم، وخريطة الطوائف الإسلامية، فمنها تكونت وظهرت الفرق الإسلامية، من الخوارج والشيعة، وغيرهم. لكن، على الرغم من أهمية هذا الحدث، وجلالة خطبه، إلا أنه تسبب أيضا في تغييب أو تهميش صفحات مهمة من التاريخ رافقت تلك الحقبة؛ ذلك الحدث الأهم هو قيام الدولة الأموية على يد معاوية بن أبي سفيان، تلك اللحظة المدوية في صفحات التاريخ كان لها أثر هائل في إعادة صياغة المشهد العالمي آنذاك، وتغيير موازين القوى، ورسم خريطة جديدة لقارات الأرض، وآثار ذلك وظلاله لا تزال ممتدة إلى يومنا هذا.
جوانب حضارية مدنية
بعيدا من الجدل الطائفي والديني، أريد أن أسلط الضوء هنا على جوانب حضارية ومدنية من شخصية معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، باعتباره رجل سياسة من الطراز الأول، بل أحد أهم رجال السياسة والملك في تاريخ الإنسانية، الرجل الذي طبع بأثره العميق السياسة العربية والإسلامية، حتى أصبح نموذجا لكل من جاؤوا بعده. فكل الدول والممالك الإسلامية - اتفق في ذلك كارهوه ومحبوه- التزموا منهجه في الحكم، لم يعدلوا عليه أو يلغوه، بل أخذوه كما جاءهم منه، وكأنه أوجد لهم الحل، وعبّد لهم الطريق.
ليس في ذلك غرابة، فهو معاوية، سليل أشراف قريش، ابن حماة الكعبة وسقاة الحجيج، نشأ الشاب اليافع اللامع بين بطحاء مكة وجبالها، واعيا بحضارات الجزيرة العربية، والحضارات من حولها، فوالده أعظم وجهاء العرب، سيد سادات قريش، كان شهيرا بتجارته مع الشام، تلك البلاد التي أحبها، وفهم عمق تاريخها، وأصالة الوجود العربي العريق فيها، وحين دخل أبو سفيان دمشق بعد الفتح، تأمل جدرانها، وأسوارها، وطرقاتها بكل الحب، وحنين الذكريات، وهو يتمنى أن يرى أبناءه وقد بنوا فيها مجدا، وسادوا منها العالم. وهذا ما حدث.
مبايعة
خرج معاوية نحو الشام أميرا في عهد عمر بن الخطاب، وحين دان له الناس، وبايعه المسلمون في عام الجماعة 41هـ، أصبحت الشام عاصمة العرب وحاضرة العالم الإسلامي، ومن أرضها أسس معاوية أكبر أمبراطورية عرفها البشر في زمانه، "الدولة الأموية" التي بلغ حجمها ثلاثة أضعاف الأمبراطورية الرومانية، وبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، أي قرابة 30٪ من سكان العالم. وبهذا أصبحت الدولة الأموية خامس أكبر إمبراطورية على مر التاريخ.
حين ولّي معاوية بن أبي سفيان الشام، لم يكن رجلا غريبا بين أهلها، أو طارئا بين سكانها، بل أصبح سيدها الأول بلا منازع، ورمزها، ووجيهها. أحبه أهلها، ووقفوا حوله كأشد ما تكون العصبة والمنعة، والكلمة حين تخرج من فمه تتحرك الشام لأجلها وتنتفض، حبا وسمعا وطاعة. ودانت له الكنائس المسيحية، وخضعت له بكل الاحترام، وأصبح يفصل في شؤونهم وينظم أمورهم، حتى أطلقوا عليه لقب "الزعيم المستنير السمح". وحين اختلفت الكنيسة المارونية مع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية حول طبيعة المسيح، جاؤوا إلى معاوية طالبين تحكيمه في الموضوع، فأقرّ رأي الموارنة ومنحهم كنائس كانت تابعة للأرثوذكس في حمص وحماة ومعرة النعمان. ولهذا كان لمعاوية أثره الكبير في حفظ وجود الطوائف العربية المسيحية، فقد قام بحماية طائفة الموارنة أثناء خلافهم الشديد مع اليعاقبة. كما يقول زكي النقاش في كتابه "أضواء توضيحية على تاريخ المارونية": "الفضل لمعاوية في إنصاف مواطنينا الموارنة من اضطهاد إخوانهم اليعاقبة، في استجابة طلبهم باللجوء إلى جبل لبنان عام 659 م".