مراحل
لم تولد الحداثة من فراغ، فقد بدأت مع بوادر الثورة الصناعية (في منتصف القرن السابع عشر تقريبا)، وكان لا بد من أن تكون متعددة المراحل، لتواكب التطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة بوتيرة عالية. فكانت هناك مرحلة ما قبل الحداثة 1890-1900، والحداثة المبكّرة 1900-1920، والحداثة المتعارف عليها 1920-1940، ثم أدب ما بعد الحداثة 1940-1960، معلنا نهاية التاريخ، أو استحالة إنتاج شيء جديد، وبالتالي الإحياء الحتمي لأساليب الماضي.
احتفاءً بهذه المناسبة، صدرت في إيطاليا ترجمة جديدة هي التاسعة لقصيدة "الأرض اليباب" أنجزتها سارة فنتروني، وسبقتها قبل عام واحد تقريبا ترجمة أخرى، ولكن بعنوان مختلف، "الأرض المُدَمَّرَة". بررت المترجمة كارمن غالّو هذا الاختيار بالحاجة إلى إعادة ربط القصيدة ﺒ"أنقاض" الحرب العالمية الأولى التي زرعت الدمار وخلّفت ملايين الضحايا في أوروبا.
كانت ذائقة إليوت الأدبية تميل على ما يبدو، إلى التقليدية، إذ أعلن أكثر من مرة أنه كلاسيكي في الأدب نافيا إمكان الكتابة التلقائية. مع ذلك يمكن تسمية كل من "الأرض اليباب" وبعض قصائده اللاحقة، وفقا لرأي بعض النقاد، "قصائد مجرّدة"، وهي، بدلا من أن تحتفي بتكامل المعنى، أو على الأقل بالحنين إلى هذا الاكتمال، نجدها مهووسة بغياب المعنى الذي يميز العصرين الحديث والمعاصر. من خلال التجاذب في الفراغ ("ربط لا شيء/ بلا شيء")، مثلما كتب إليوت نفسه في مقالته الأساسية "التقليد والموهبة الفردية"، تمكن من تحقيق انتصار جزئي على التقاليد، من خلال خلق مساحة لشعره، قلة المعنى التي جعلت من الممكن إنتاج معان جديدة.
ربع قرن
في العودة إلى ترجمة سارة فنتروني، أجمع النقاد هنا على أنها ترجمة مكتملة، وتفوق، لغة وعمقاً، ما سبقها من ترجمات. بدأت فنتروني العمل في ترجمة القصيدة عام 1996 ولم تنته منها إلا خلال الأشهر القليلة الماضية، أي قبل إرسال النسخة النهائية إلى المطبعة في شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي. ووجدت فنتروني، وهي إحدى أهم الشاعرات المعاصرات، طريقة لالتقاط عناصر الخطاب الشعري الأكثر حسماً ومراوغة في الوقت نفسه، وهو ما يسمى "المسار"، الذي يتيح اختيار أفضل نهج، خاصة لمن يقرأ القصيدة للمرة الأولى. الانصهار كليا في تدفق الصور، من أول كلمة إلى آخرها، دون أن يطمح المرء إلى فهم كل شيء أو يتوقع فهم كل شيء، لأن الفهم الجزئي فقط يسمح لنا باكتشاف معان جديدة في كل قراءة جديدة.
توماس إليوت كاتب قصيدة "الأرض اليباب"
كتب ت. إس. إليوت قصيدة "الأرض اليباب" في لندن بين عامي 1921 و1922 ونشرت في مجلته "المعايير" في أكتوبر/تشرين الأول1922، وتلتها طبعة ثانية في المجلة نفسها، وأخيرا، في العام ذاته، صدرت الطبعة الورقية في نيويورك، مع إضافة بعض الملاحظات تشير إلى نصوص أخرى. القصيدة الطويلة، التي تنتمي إلى الطور الأول من شعر إليوت، تركز على أزمة المجتمع الغربي، الذي تحول، كما يوحي العنوان، إلى "أرض يباب".
تتكون القصيدة من خمسة أقسام: "دفن الموتى"، "لعبة شطرنج"، "موعظة النار"، "الموت بالماء"، "ما قاله الرعد". يمكننا أن نرى فيها أصالة كتابات إليوت، الذي قام، تحت تأثير عزرا باوند (الذي أهديت إليه القصيدة)، بمضاعفة الإشارات إلى نصوص أخرى، مع إدخال اقتباسات مخفية أو واضحة، مطعّمة بأساطير مختلفة، غربية وشرقية.
في "الأرض اليباب"، يؤكد إليوت رؤيته الواضحة المتشائمة للواقع، مصورا الحالة المأسوية للأرض: سقوط كل قيمة لا تتوافق مع البدائل الممكنة، وهذا ما يفتقده تماماً الإنسان المعاصر بإمعانه في تكريس واقع لا محال أن يؤدي إلى الهاوية. تأثر عمل إليوت بشعراء العصر الإليزابيثي، "الميتافيزيقيون" في القرن السابع عشر، وبالشعر الرمزي؛ لكن رمزية إليوت، أكثر مما هي من القرن التاسع عشر، تشير إلى القرون الوسطى وعلى وجه الخصوص إلى "الكوميديا الإلهية"، المشار إليها كنموذج يجب اتباعه (وإلى دانتي في الواقع خصص إليوت دراسات نقدية عديدة).
بعد الحرب العالمية الأولى، بدا التاريخ البشري لإليوت كومة من الأنقاض، كشيء لا يمكن أن يكون مدعاة للانتصار، ومن الصعب ربطه بأي قيمة أخلاقية بعدما شهدته البشرية من أهوال تلك الحرب. بينما على المستوى الخطابي، يقترح شعر إليوت نوعا من الانصهار بين العاطفة والتفكير. في هذا السياق، ولدت شاعرية "الترابط الموضوعي"، التي ترى أن من الضروري تحويل كل عاطفة فردية إلى صور موضوعية صالحة للجميع. الشعور والحدس الشخصي يتم توصيلهما في شكل رمزي، من خلال موضوع يستوعب كليهما.
هناك شهادة نموذجية للمزيج المستمر من المراجع الثقافية المختلفة الموجودة في بنية "الأرض اليباب"، في القسم الأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد"، يبدأ إليوت برؤية يائسة للصحراء: "ربما ينتظر الرجال المطر الذي لم يأت؛ حتى الرجاء الذي يمكن أن يأتي من المسيح بعيد، بينما الناس على الأرض يموتون". في هذا المقطع، يواصل الشاعر أسلوبه في التداخلات الثقافية، مستفيدا من ترتيب دقيق للمراجع التي تتراوح بين دانتي وإنجيل لوقا، مرورا بأساطير مختلفة.
من جهة أخرى، نجده يستحضر حالة من عدم الراحة والأرق بعبارات تشبه الحلم، مما يخلق جوا كابوسيا. ففي المقطع الثاني، يطابق إليوت، مزاج الإنسان مع خراب المنظر الطبيعي (غياب الماء = غياب الحياة)، ويصر على جفاف المشهد من خلال سلسلة من التكرارات تخلق تأثيرا موسيقيا مهووسا.
لكن إليوت يقدم لنا أيضاً ولادة جديدة، يرمز إليها الديك بصياحه البهيج، وعلامة فجر جديد، والرياح الرطبة التي تعيد المطر. انتهى الخراب الآن، والرعد يتحدث ويعلن رسالته للخلاص: من كلماته تنبثق القيم الأساسية للحضارة الماضية: الإيثار، والرحمة، وضبط النفس، والتي على أساسها يجب إعادة إنشاء حضارة جديدة.
لعب عزرا باوند دورا أساسيا في الانتقال من النسخة الأولى من "الأرض اليباب" التي نشرت في المجلة الآنفة الذكر، إلى النسخة النهائية التي نُشرت عام 1925 في لندن في مجموعة "أشعار Poems". مسلحا بمقص حاد، أزال باوند نحو نصف الأبيات التي كتبها صديقه، مما سمح للقصيدة، المؤلفة من خمسة أجزاء، بالوصول إلى تدفقها وانسيابها الرائعين: "بالدفء أحاطنا الشتاء، مغطّيا/ الأرض بثلج غُفُولٍ، مغذّيا/ الحياة الآفلة بدرنات جافة".
أما بالنسبة إلى جذور هذه التحفة الأدبية، فالناقد الإيطالي إيمانويل تريفي يؤكد "أننا لا نستطيع أن نحدد فقط جذور العمل، ولكن أيضا تحديد محاوره الرئيسية واحدا تلو الآخر، مع مراعاة ما ذهب إليه إليوت نفسه، وهو ما يعني قراءة كتاب نشرته جيسي ل. ويستون، وهي باحثة بريطانية بارعة في الميثولوجيا والأنثروبولوجيا في عام 1920. بعدما وضعت كمية هائلة من البيانات معا، لمحت ويستون في روايات الكأس المقدسة في العصور الوسطى أثر طقوس الخصوبة القديمة، وهي مجموعة من المعتقدات والأساطير تتمحور حول موضوعين مترابطين هما الجفاف وخراب الأرض التي لم تعد تنتج ثمارا، ومن مرض الملك الذي يجب أن يُؤمِّن الغذاء لشعبه. انتقد المتخصصون الذين جاؤوا لاحقا بشكل كبير استنتاجات معينة للباحثة الإنكليزية، لكنها لا تزال صالحة جدا من عنوان الكتاب "من الطقوس إلى الرومانسية". في هذه الرحلة التاريخية من الطقوس إلى الأدب الروائي، بحكم طبيعتها، تجد الرموز الأكثر غموضا وسيلة للبقاء على قيد الحياة عبر الزمن، حتى لو تعامل الكتاب معها بشكل سطحي، بعدما فقدت مغزى وجودها".
من الممكن أيضا أن نفهم من هذه التلميحات الضئيلة مقدار الإلهام الذي يمكن أن يجده شاعر لا يزال شاباً، إذ كان إليوت قد تجاوز الثلاثين من عمره عندما كتب "الأرض اليباب"، بحثا عن فكرة مركزية من شأنها أن تركز فهمه للحياة ومصير الإنسانية الحديثة و"مدنها غير الواقعية". لقد انتقل إليوت إلى ذاكرة الأجيال القادمة ليس فقط كشاعر فذّ، بل أيضاً كوصي على التقليد الأدبي؛ وخاصة بالنظر إلى مقالاته. لكنه أكثر من باوند وجويس، شعر بشدة أن هذا التقليد لم يمر دون أن يصاب ببلاءالحضارة الصناعية، والاستنساخ الميكانيكي للصور والاغتراب الحضري.
الموضوع الحقيقي لـ"الأرض اليباب" ليس استنساخ أساطير الكأس المقدسة، بل فقدان وحدة أي أسطورة، لأي حكمة ورثها الإنسان الحديث، فعلى عكس أسلافنا، يبدو أننا نتحرك داخل سلسلة لا متناهية من الأنقاض والصور المهشّمة، التي لا يمكن، نظراً إلى تشابكها وغموضها، استخلاص مغزى حقيقي منها.
ومع أن مشروع جيسي ل. ويتسون يتخذ طابعا غير مسبوق إذا فسرنا "الأرض اليباب"، كما يبدو من عنوان كتابها كمحاولة لتتبع المسار في اتجاه معاكس، ليس من الطقوس إلى الأدب، إنما من الأدب إلى إمكان طقوس جديدة، وبالتالي تطهير جديد قادر على تخليص العالم من عقمه، وهو على الأرجح، ما ابتغاه إليوت في الجزء الخامس والأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد": "بعد الضوء القاني للقناديل على وجوه مُعَرَّقَة/بعد الصمت الجليدي في الحدائق/بعد الألم في الأماكن الحجرية/الصرخات والدموع/السجن والقصر وصدى صوت/ الرعد في الربيع على الجبال البعيدة/ الذي كان حياً مات الآن/ نحن الذين كنا على قيد الحياة نموت الآن/ بقليل من الصبر" (الترجمة عن الإيطالية).