جيل المثقفين العرب الذي كان أنهى دراسته الجامعية في بداية الستينات من القرن الماضي، والذي تجاوز الآن معظم أفراده الأحياء سن الثمانين، هو جيل التضحيات بلا منازع، إن لم نقل إنه الجيل-الضحية. لقد كتب على ذلك الجيل أن يكون جيل النضال: النضال ضد الجهل والفقر والاستعمار والتخلف والرجعية أولا، ثم النضال ضد الشعارات بشتى أشكالها ومختلف مراحلها. لقد كان بالفعل جيل معارضة: معارضة الحكومات، ومعارضة المعارضات، معارضة الآخر ومعارضة الذات. صحيح أن من بينه مثقفين كانوا قد يئسوا من طول النضال ولانهائية الطريق، لكن معظمه ظل يزرع من غير حصاد، ويغرس من دون قطاف. ذلك أن ذلك الجيل لم يطمع كثيرا في جني الثمار بقدر ما حرص أن "يخرج" ما أمكن من كل مرحلة "نظيف الأيدي" نقي الضمير، طاهر القلب. وأولئك الذين لا يزالون منه على قيد الحياة يفخرون اليوم لا بما نالوه وحققوه، بقدر ما يفخرون بسلامة العاقبة، وراحة البال، و"طهارة الأيدي".فإن كانت الظروف قد جرتهم، بالرغم منهم، في غالب الأحيان، إلى أن ينضووا داخل حركة التاريخ، وأن يعيشوا تجارب "خطيرة" تفوقهم حجما وضخامة، كمكافحة الاستعمار، ومقاومة التخلف، وإرساء أسس الحداثة، إلا أنهم لم ينغمسوا كلية في تلك الحركة. إذ ظلوا حرصاء على أن يدخلوها من غير أن ينسوا ذواتهم. وقد ساعدهم على ذلك كثير من الفلسفات المنتشرة آنئذ. وهذا ما جعلهم يتشبثون بمزج الأخلاق بالسياسة، ويحرصون أساسا على أن يظلوا "منطقيين مع أنفسهم" قبل أن ينصاعوا لمنطق التاريخ.
لقد نما ذلك الجيل وترعرع في جو يسلّم بأن الهمّ العام خاصّ وخاص جدا، وبأن قضاياه هي قضايا الوطن، وكان يضحي بحاضره من أجل غد أفضل تتحقق فيه عدالة اجتماعية في حد أدنى، وتُضمَن فيهحقوق الإنسان في صورتها الأولى على الأقل. إلا أنه ظل يعتبر أن قيمة الفعل مستمدة من الأخلاق أكثر مما هي مستمدة من السياسة، وأنها تقاس ذاتيا قبل أن تقاس موضوعيا. وحتى تلك الأخلاق لم تكن لتعتبر بنتائجها ومفعولاتها، وإنما بالنيات التي من ورائها. إنها كانت أخلاق اقتناع قبل أن تكون أخلاق فعالية.
لا عجب أن يرتمي مثقفو ذلك الجيل بكليتهم في أحضان فلسفات كانت تزاوج بين معقولية التاريخ وضرورة الانضواء، بين عبث الوجود والمسؤولية الأخلاقية، بين "قوة الأشياء"و "قوة الكلمات". ولعل هذا ما يفسر الرواج الكبير الذي لقيه المفهوم الوجودي للالتزام عند المثقفين العرب خلال الستينات، مع ما عرفه من تنويعات ماركسية في ما بعد، وكذا المفهوم الذي يجعل من المثقف أساسا ضمير عصره، والوصي على المظلومين، والحامل مشعل الحقيقة والمدافع عن القيم، والمتكلم باسم جميع من لم تُعط إياه الكلمة.
أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة يفخرون اليوم لا بما نالوه وحققوه، بقدر ما يفخرون بسلامة العاقبة، وراحة البال، و"طهارة الأيدي".
لا نستطيع أن نتمثل بسهولة المعاناة التي يعيشها الذين بقوا على قيد الحياة من ذلك الجيل، ولا مدى "شقاء وعيهم" عندما يدركون البون الشاسع بين ما كانوا يعلقونه على المستقبل وما آلت إليه الأمور حيث لم يعد يُنظر إلى الوطن إلا "كمصدر للثروات". وهم يتعجبون من أنهم لم يكونوا بحاجة إلى أن يتساءلوا عمن هو المثقف، ولا ليعقدوا الندوة تلو الأخرى ليحددوا وظائف المثقف وعلاقته بالسلطة. مع ذلك، كانوا يعيشون حركة ثقافية فعلية، حركة تشكل سلطة ضد السلطة، حركة مغروسة في المجتمع، تحلم بأحلامه، وتفصح عن رغباته، وتعبر عن مطامحه، وتنطق لغته.
كانت الثقافة بالنسبة الى ذلك الجيل إذاعادات وسلوكا ومواقف وأذواقا، ولم تكن قط مهرجانات ومؤتمرات وندوات وجوائز، كانت إبداعا ونقدا ونضالا طبقيا على مستوى الفكر. وخير ما أسدته وزارات الثقافة لذلك الجيل هو أنها لم تكن تتدخل كثيرا في شؤون الثقافة، فلم تجعل منها شأنا مؤسسيا. لذا أخلت المكان للمثقفين ولإبداعاتهم ونضالاتهم الفكرية، بل لصراعاتهم واختلافاتهم.
أما اليوم، فعندما غدت الثقافة "وظائف ومكاتب"، بل مصدر كسب، وطريق اغتناء،أبرزت إلى الواجهة "مثقفين" عاجزين عن أن يكونوا في مستوى ماضيهم، فأحرى أن يتطلعوا إلى المستقبل، وأن يبدعوا قيما مغايرة.