بشرّنا العديد من أفلام الخيال العلمي بما نحن مقبلون عليه اليوم، وسال حبر كثير في العقد الأخير على موضوع الذكاء الاصطناعي و"الروبوتات الاستعراضية"، لكن قلما تجرأت الأقلام على القول بأن الذكاء الآلي سيطرق باب الرسم والشعر والتأليف والصحافة من خلال روبوت خالٍ (مبدئيا) من الأحاسيس والمشاعر التي يحتاجها هذا النوع من التعبير.
ليس أدل على مدى أهمية منتج "تشات جي. بي. تي." والشركة المالكة له، "أوبن إيه. آي."، سوى "حالة الرعب" التي تعيشها شركة "غوغل" منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فهي لم تشعر بخطر شديد لمنافسة أعمال محرك البحث الأول في العالم منذ عقدين مثل اليوم. تبلغ قيمة نشاطاتها 149 مليار دولار، وهي التي تعالج نحو 100 ألف عملية بحث في الثانية وتقدم إجابات مهمة ومباشرة ودقيقة بفضل خوارزميتها الذكية، فيما بالكاد تمثل جميع محركات البحث الأخرى مجتمعة عُشر الباحثين على موقع "غوغل" يوميا.
لعل العشرة مليارات دولار التي استثمرتها شركة "مايكروسوفت" في شركة "أوبن إيه. آي." هي التي أجبرت رئيس "غوغل" التنفيذي سوندار بيتشاي على إعلان "الرمز الأحمر" (Code Red) في الشركة، أي حالة تأهب قصوى، ودفعت مؤسسَي "غوغل" لاري بيدج وسيرجي برين، المبتعدَين عن الإدارة اليومية منذ 2019، الى عقد اجتماعات مكثفة مع المديرين الكبار للشركة آخر العام المنصرم لتبديل خطط العمل.
فمنذ أن تسرب الخبر عن نية شركة "مايكروسوفت" في ديسمبر/ كانون الأول الماضي ضخ مليارات جديدة في شركة "أوبن إيه. آي." (إضافة الى المليار دولار يوم تأسيسها قبل ثماني سنوات)، وضعت الشركة ومشروعها الجديد-القديم تحت الأضواء والاهتمام الاستثماري والإعلامي والشبابي الطالبي والأكاديمي خصوصا.
لم يكن خبرا عاديا استثمار "مايكروسوفت" اللافت، في وقت كان العالم يشهد خسائر غير مسبوقة لنجوم شركات التكنولوجيا وعمليات صرف جماعي دراماتيكية لعشرات الالآف من الموظفين في القطاع، من "ميتا" و"تويتر" الى "أمازون" و"غوغل" وغيرها، وهي لا تزال مستمرة في العديد من الشركات، ناهيك بالكوارث التي انهمرت على بورصات العملات المشفرة وشركاتها الكرتونية، لا سيما بعد زلزال إفلاس شركة "إف. تي. أكس." (FTX) وانكشاف صاحبها "امبراطور التشفير" الشاب المحتال سام بانكمان فريد.
في ظل هذه الأخبار والظروف، حلق نجم شركة "أوبن أيه. آي." بسرعة خارقة لتنبئ بأن الابتكار لا يزال قائما، وبأن روبوتات المحادثة الجديدة تزداد ذكاء، وبأنها تستعد للتربع على "عرش الذكاء الاصطناعي" قريبا، وكأنها تقول "الأمر لي" في 2023.
فإذا كانت "غوغل"، التي بلغت عائداتها في السنة المالية الأخيرة 256 مليار دولار، قد شعرت بتهديد من روبوت المحادثة (chatbot) الذكي الجديد، واستعجلت الكشف عن نحو 20 منتجا جديدا وإظهار نسخة من محرك البحث الخاص بها مع ميزات مماثلة وربما متفوقة في السنة الجارية، فلا عجب أن يكون "تشات جي. بي. تي." الذي صار العنوان الأكثر إثارة للجدال والقلق، يهيمن على عمالقة التكنولوجيا وشركاتها وعناوين كبرى وسائل الإعلام منذ مطلع السنة الجارية، وقد تلقفه الشباب والطلاب خصوصا بلهفة، واستقبل هجمة عليه وصلت الى مليون مستخدم خلال خمسة أيام فقط من إطلاقه، محطما كل الأرقام القياسية السابقة لـ"فايسبوك" و"تويتر" و"نتفليكس" و"إنستغرام" و"تيك توك".