السعر الرسمي يعني أنه يمكن لأي مستورد عراقي أن يودع في البنك المركزي دنانير عراقية، فيحولها البنك حسابيا الى دولارات ويرسلها بتحويل عبر نيويورك والنظام المالي العالمي الى المورد خارج العراق، من دون استخدام السيولة. يمكن لأي عراقي أو عراقية أيضا ممن يحملون بطاقات بلاستيكية صادرة عن مصارف عراقية استخدامها على سعر الصرف الرسمي من دون الحاجة الى دولار نقدي، وهنا بيت القصيد.
إن ارتفاع سعر صرف الدولار النقدي أمام الدينار، وانخفاض سعر صرف الدولار التحويلي أمام الدولار، يعني أن ما يجري هو تجفيف القطاع المالي الخارج عن رقابة نظام سويفت العالمي، وهذا لا يؤثر البتة في أرصدة العراقيين، أو قيمة عملتهم، أو قدرتهم الشرائية، طالما أنهم يستخدمون التحويلات المصرفية عبر سويفت بدلا من النقد.
ثم أن العراقيين لا يحتاجون الدولار نقدا داخل العراق حيث يمكن استخدام الدينار العراقي لأي عملية بيع وشراء.
قد يحتاج العراقيون الذين يسافرون الى خارج البلاد الى مبالغ نقدية بالدولار للمصروف الشخصي. لمعالجة هذا الموضوع، أعلنت السلطات العراقية أنه في وسع كل مغادر العراق في المطار، ممن يحمل تذكرة سفر وبطاقة صعود الطائرة، ويكون قد اجتاز خط ختم جوازات السفر، أن يحوّل دنانيره العراقية دولارات على سعر 1320 دينارا للدولار الواحد.
القطاع المصرفي العراقي لا يزال يافعا
العراق لا يعاني من نقص في السيولة ولا من انخفاض في سعر عملته. شبكة إيران في العراق هي التي تعاني من نقص السيولة، وارتفاع سعر الدينار في أوساط الاقتصاد البديل الذي تشغله هو للتعويض عن العقوبات الأميركية المفروضة عليها.
أما المشكلة التي لا يزال العراق يواجهها فتكمن في أن قطاعه المصرفي لا يزال يافعا وغير قادر على تلبية حاجة غالبية العراقيين، وهذا يعني أن الخدمات المصرفية العراقية، مثل اصدار بطاقات الاعتماد الائتمانية، وتقديم خدمات تسمح للمواطنين العراقيين بالاستعاضة عن استخدام السيولة لا تزال غير متوفرة على شكل واسع، وهو ما يجعل النقد وسيلة وحيدة لدوران عجلة الاقتصاد.
لكن النقد، كما تقدم، غير ضروري داخل العراق، وانما مطلوب فقط لعمليات البيع والشراء بين العراق والعالم، وهذا ما حمل البنك المركزي على القيام بعمليات استيراد واسعة ريثما يتم توسيع القطاع المصرفي العراقي، وتحسين قدرته على الانخراط في النظام المالي العالمي وعلى تحويل الأموال من العراق واليه.
أما إيران، فهي منعزلة عن النظام العالمي بحكم العقوبات الأميركية عليها، وهي تعمد الى السيولة النقدية كوسيلة وحيدة للتهرب من هذه العقوبات، وهذا يعني أن تجفيف اقتصاد السيولة النقدية في العراق سيؤذي نظام إيران بدون أن يؤثر في العراقيين أو اقتصادهم.
ويبدو أن رئيس الحكومة العراقي أدرك مكامن الخلل، الذي يتكرر للمرة الثانية بعدما حدث الأمر نفسه بين وقت فرض الأمم المتحدة عقوبات على إيران مع حلول العام 2010 ورفعها عنها في 2016. في السنوات الست تلك، حدث الأمر نفسه، وهدد الاحتياطي الفيديرالي الأميركي نظيره العراقي بوقف شحن الدولار نقدا اليه. وانهار الاحتياطي النقدي العراقي الى ما دون 20 مليار دولار، وهذا ما أجبر البنك الدولي وصندوق النقد على التدخل، الى أن تم تعديل الأمور. وتزامن ذلك مع رفع العقوبات عن ايران فتراجع الضغط عن العملة الوطنية العراقية.
في الأزمة الماضية، كان علي العلّاق محافظا للبنك المركزي العراقي، وهذا ما حمل السوداني على استدعائه للتصدي للأزمة الحالية المشابهة، فزار واشنطن، والتقى مسؤولين في الاحتياطي الفيديرالي وفي وزارة الخزانة، وسمع من المسؤولين الأميركيين مخاوفهم المتعلقة بتبييض الأموال عبر العراق، وبانتقال الدولارات العراقية الى طهران والحرس الثوري الايراني، الذي تصنفه واشنطن تنظيما ارهابيا.
وتوصل الطرفان العراقي والأميركي الى الاتفاق حول ضرورة الإسراع في تطوير القطاع المصرفي العراقي وقدرته على تلبية حاجة السوق من التحويلات من دون الحاجة الى النقد. وفي مقابل موافقة العراقيين على المطالب الأميركية، وافق الأميركيون على التراخي بعض الشيء في تسييل بعض الأرصدة العراقية، وتحويلها الى نقد، وشحن هذا النقد الى أقبية المصرف المركزي العراقي.
النظام الإيراني كالطاعون
خلاصة الأزمة النقدية العراقية أن النظام الإيراني هو كالطاعون، لا يحل في بلد إلا ويقوّض أمنه، ويحوّل اقتصاده الى هباء ومستقبله الى ظلام. العراقيون يبدو أنهم يدركون أن التحول من نظام نقدي والانخراط في النظام المالي العالمي للمصارف وسويفت هو خيار لا بديل منه، وهذا ما حمل نظام إيران وحلفاءه العراقيين على تشغيل ماكينة الدعاية، ساعة للقول إن أميركا تحرم العراق أمواله، وساعة لإشاعة أن واشنطن تملي على العراق ما يمكن شراؤه ومن أين، الى آخره من دعاية تحريضية لا تؤكل ولا تسمن بل تتسبب في شقاء فوق البؤس والشقاء.