وقعتُ، وأنا أمارس طقسي اليومي في ترتيب مكتبتي الممزّقة الأحشاء، على كتاب مذهل هو "العين الثالثة" لمؤلفه لوبسانج رامبا الذي كنت منذ مدة أعتزم طرحه للمناقشة والحوار عن الكتب المختلَقة، التي روّج لها بورخيس ومارسها قبله فرناندو بيسوا.
هذا الكتاب الذي أعتبره أكبر عملية تزوير مكتملة الأركان، استطاع أن يخترق كل المعوقات والمحاذير، وأن يكون حدثا ثقافيا بامتياز، مع تحقيق نسبة إقبال خرافية جعلته يُطبع عشرات الطبعات ويُترجم ألى أغلب لغات العالم.
قصتي مع الكتاب بدأت حينما كنت قبل نحو 15 سنة أجول في معرض القاهرة للكتاب، وأبحث عن الدور غير الرائجة، وأعني الدور التي لا تجد كتبها خارج القاهرة، وربما حتى في القاهرة لا تجدها بيسر وسهولة، وكانت من بينها "دار سندباد للنشر والتوزيع" التي غيّرت اسمها إلى "سندباد للنشر والاعلام". لم تستفزني إصداراتها المعروضة آنذاك لكنني وجدت كتابا بترجمة الروائي والمترجم الفلسطيني أحمد عمر شاهين الذي عاش ومات في مصر، ومن المصادفات أن يفارق الحياة في عام صدور ترجمته هذا الكتاب عام 2001.
ولأنني احترم اختيارات شاهين في الترجمة، توقعت أنني وقعتُ على صيد ثمين، وفعلا كان كذلك، خصوصا أنّ الناشر أو المترجم كتب على غلاف الترجمة الخلفي: "لوبسانج رامبا هذا اللاما التيبتي الذي قال العرّافون – وكلمتهم لا تردّ هناك – إن النجوم حكمت بأن يكون راهبا طبيبا...
هذه سيرته الذاتية التي كتبها بالإنجليزية بعد خروجه من التيبت وعدم قدرته على العودة إلى هناك بسبب الغزو الصيني لبلاده.أثارت الكثير من الدهشة، وأقبل عليها القراء حتى طبعت أكثر من ثلاثين طبعة، وهذه الترجمة عن الطبعة السادسة والعشرين سنة 1992".
إلى هنا الكلام محفز وعوالم التيبت وطقوسه الشاهقة والبعيدة تغري بالقراءة، ومثلما توقعت، كانت السيرة إطلالة لي على عوالم مختلفة عن الأجواء البوذية التقليدية التي قرأناها كثيرا.
لكنّ المفاجأة التي لا تخطر في البال، أنني بعد سنوات عدة من قراءة هذا الكتاب ونسيان عوالمه، صادفته في رفّ الكتب الافريقية في مكتبتي، ولا أدري لماذا انتقل إلى هناك، فقمت بشيء من الفضول أبحث في "غوغل" عن هذا الكاتب ومن أي دولة افريقية هو، وهل تُرجمت له كتب أخرى.
وكانت الصدمة الإنترنتية، التي سقطت عليّ كالصاعقة.
هذا الكتاب الذي أعتبره أكبر عملية تزوير مكتملة الأركان، استطاع أن يخترق كل المعوقات والمحاذير، وأن يكون حدثا ثقافيا بامتياز
لوبسانج رامبا لم يكن سوى سبّاك اسمه سيريل هنري هوسكينز، جذبته هذه العوالم فقضى وقتا طويلا يقرأ عنها ويتلبسها حتى بلغت به المغامرة أن يكتب كتابه "العين الثالثة" ويختار اسما مخترعا لنفسه من هذه الأجواء هو لوبسانج رامبا، وأرسل مسوّدة هذا الكتاب بكل جرأة إلى دار "سكر آند وربورغ" للنشر التي اشتهرت في ستينات القرن الماضي بنشر أعمال سيمون دو بوفوار وألبرتو مورافيا وغونتر غراس وغيرهم، حتى تحولت عام 2005 إلى دار "هارفيل سكر" بعد اندماجها الكلي مع دار "هارفيل".
المهم أن الدار مارست كالعادة آليات إجازة الكتب للنشر، وإرسال مسوّداتها إلى المختصين، حيث أرسلت مسوّدة "العين الثالثة" إلى عددٍ من الاختصاصيين في شؤون الدراسات والعقائد الشرقية وكانت ردودهم دائما: "الكتاب مختلق والمؤلف ليس تيبتيا ولم يزر التيبت ولا حتى الهند".
لكنّ مسؤولي الدار كانت لهم نظرة أخرى فوقّعوا مع الكاتب عام 1956 عقدا لطباعة الكتاب مقابل 800 جنيه إسترليني توازي 18 ألف جنيه بسعر صرف العملة في أيامنا هذه.
ومثلما توقع الناشرون نجح الكتاب وذاع صيته، لكنّ أحد الذين عُرضت عليهم مسوّدة الكتاب وهو الباحث هيو ريتشاردسون لم يرض بما حدث فكلّف المخبر الخاص كليفورد بورغيس البحث والتحري والتحقيق في هذا الموضوع وكشف ملابسات هذا الكاتب.
واستطاع بورغيس أن يكشف حقيقة المختلق وأنه ليس سوى سبّاك من ديفون ولد عام 1910 ولم يسافر إلى التيبت قطّ.
نشرت نتائج التحقيقات في صحيفة "ديلي ميل" في فبراير/شباط 1958 وأثارت ضجة كبيرة، لكن المختلق لم يستسلم وقال إن روح اللاما تلبسته واستولت على جسده.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ استمر في تأليف الكتب في هذا الشأن وأصدر 19 كتابا بعد ذلك.
ولأنّ الوضع لم يعد مريحا له في إنكلترا، هاجر إلى كندا، وهناك وجد الفرصة سانحة له ليروّج لأفكاره وكتبه حتى توفي عام 1981.
الغريب في الأمر أن الدالاي لاما علّق على الموضوع قائلا: "على الرغم من أن هذه الكتب مختلقة ووهمية، إلا أنها خلقت دعاية جيدة للتيبت".
ترجمة الراحل شاهين ليست الوحيدة، ففي عام 2010 ترجم هذه القصة المختلقة طبيب القلب الدكتور غازي الحلبي في كتابه "بوذي من التيبت" ومن دون إشارة طبعا إلى موضوع الاختلاق.
اللافت في الأمر أنّ هذه الترجمة صدرت عن "المركز العربي للأبحاث والتوثيق"!