بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 آثر الناشط السياسي اللبناني الشاب عماد بزي مغادرة بلده يائسا مما أصاب العاصمة اللبنانية و"ثورة" 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 من انهيار وتحلّل ودمار. رحل إلى مدينة غازي عنتاب التركية، وعمل هناك في منظمة "إنارة" الإنسانية وغير الحكومية، الناشطة في رعاية الصحة الجسدية والنفسية للأطفال المتأثرين بالنزاعات والكوارث.
قبل أيام زار بزي بيروت عابرا وناجيا من الزلزال الكارثي في جنوب تركيا وشمال سوريا، محاولا تخفيف آثار الصدمة الزلزالية التي عاشها مع زوجته في غازي عنتاب التي عاد إليها نهار الأحد 12 فبراير/شباط الجاري لمتابعة عمله هناك.
يروي هذا الناجي من زلزالين لـ"المجلة" شهادة من يوميات الكارثة التي أصابت غازي عنتاب. وننقل هنا شهادته في صيغة المتكلم.
الرعب والصقيع
كنت نائما في سريري في بيتي بغازي عنتاب، لما فتحَ عينيَّ رعبُ امتلاء سمعي بصوت صافرة الإنذار القوي في هاتفي، فأيقنتُ أن كارثة وقعت، قبل ثانية أو اثنتين من اهتزاز السرير بي وبزوجتي. قفزنا غريزيا راكضين إلى الصالة، مدركين بهلع أنها هزّة أرضية. لا أتذكّر إن كانت زوجتي صرخت أم لم تصرخ. أبصرتها ترتمي على الكنبة في الصالون. وسمعتُ أصواتا غريبة كمفرقعات لمحتُ أثرها انتفاخات تحت ورق الجدران التي تخيلتُ أن شظايا إسمنت تفرقع تحتها. راكضا نحو باب بيتنا المفضي إلى الخارج في الطبقة الأرضية من بناية من 4 طبقات، لمحتُ في جدران البهو الخارجي فسوخا تتطاير منها شظايا إسمنتية. فتحتُ الباب غريزيا مستطلعا مسار هروبنا من البناية. الأرض تميد تحت قدميّ، والأصوات الغريبة تتضاعف، وأبصرتُ في الخارج أحجارا وكتلا من الثلج تهوي من البناية والبنايات القريبة. عدتُ سريعا إلى الصالة. ورق الجدران كبُرت انتفاخاته وأسمع تشقُّق الإسمنت تحتها مفرقعا، كأنني في فيلم رعب حقيقي.
كنت كلما أغضب، أكتب. شعور مزعج ينتابني الآن، عجزي عن افراغ تلك الطاقة قولاً وكتابة، لا هجاء طبقة سياسية من المجرمين يجدي، ولا شعر لرثاء بيروت يشفي الغليل. أبحث حصراً عن تغريدة فيها بارقة أمل، أبحث عن حسابات الشهداء، علني أجد منشوراً يقول "حسبتوني ميتاً؟ ها قد عدت ايها الملاعين".
— Imad Bazzi (@TrellaLB) August 14, 2020
لا أعلم الآن أكنتُ خائفا أم غير خائف أم أنني ابتلعتُ خوفي وكتمته. ربما كنت مخدّر الإحساس وذهني يعمل بطيئا. جذبتُ زوجتي المكوّمة على الكنبة وذراعاها تغمران رأسها، واتجهتُ بها نحو قنطرة الحديد الديكورية في مدخل الصالة، فيما المنزل يتأرجح بنا. التمعَ في رأسي مشهد من فيلم "شايننغ" (اللمعان) المرعب (إخراج ستانلي كيوبرك، وتمثيل جاك نيكلسن).
أنا من تلقّيتُ في عملي الإغاثي دورات تدريبية لمساعدة الناس لحظة وقوع الكوارث، كنتُ أحسبُ دائما أن ما تعلّمته سيتبخّر تماما من رأسي لحظة وقوعها، لأصير بحاجة إلى من يغيثني وينقذني. لكنني غريزيا تصرفتُ برباطة جأش، وقلتُ لزوجتي أن ترتدي أسمك ما لديها من ثياب. ربما سمعتُ صراخها في غرفة النوم، قبل خروجها منها مرتدية ثيابا واقية من الثلج. بدوري لبستُ ثيابا سميكة وحملتُ كلبتنا "بيكسل" ثم وقفنا في باب المنزل المفتوح. شعرتُ أن البناية خفَّ تأرجحها. فجأة انفتح باب شقة جيراننا، ورأيتُ جارتنا تقف على العتبة وخلفها أطفالها الستة. لا أدري كيف حضرتني العبارة التركية التي صرختُها محذّرا ألا يخرجوا من منزلهم، فيما كتلٌ صغيرة من الإسمنت تتساقط من أعلى الدرج. ولا أدري ماذا فعلت المرأة وأولادها بعد ذلك.
فكّرتُ في أن الخروج إلى العراء خطرٌ في صقيع 13 درجة تحت الصفر قبيل الفجر، وقد يُجلّد مع الرعب أجسامنا. ولما توقف تأرجح البناية، فكرتُ في سيارتنا المركونة في مرأب البناية تحت الأرض، للخروج بها قبل الهزة الارتدادية. قلتُ لزوجتي إننا سنركض إلى المرأب، وتقود هي السيارة لأنها أفضل مني في قيادتها، وتصدم بها باب المرأب إذا لم ينفتح إلكترونيا. رميتُ "بيكسل" في صندوق السيارة وجلستُ قرب زوجتي التي قادتها نحو باب المرأب الذي فتحه حارس البناية إلكترونيا، واندفعتْ بنا السيارة نحو فسحة واسعة خالية غير قريبة من البنايات. وعلمتُ لاحقا أننا لم نشعر بالهزة الارتدادية.