في العاشر من أكتوبر/ تشرين الاول المنصرم مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2022 للثلاثي بين برنانكي الباحث في مؤسسة بروكينغز (Brookings Institutions) والحاكم السابق لنظام الاحتياطي الفدرالي ما بين عامي 2006 و2014 ومواطنيه استاذي مادة الاقتصاد البروفسو دوغلاس داياموند من جامعة شيكاغو والبروفسور فيليب من جامعة واشنطن تكريما لهم ولأعمالهم التي وفرت فرصة مميزة في فهم طبيعة دور المصارف في الأزمات وسبل منع تفاقمها.
جائزة نوبل للإقتصاد لم تدرج في وصية العالم ألفرد نوبل الذي لم يكن لديه أية معرفة بالاقتصاد لا بل كان يكرهه كعلم. واسم الجائزة الحقيقي هو "جائزة بنك السويد للعلوم الاقتصادية" وقد انشأها البنك في مناسبة مرور 300 سنة على تأسيسه وأيضا لتخليد ذكرى العالم نوبل، وذلك بالاتفاق مع المؤسسة التي تحمل اسم الأخير وتعنى بناء لتوصيته باختيار مُجِلّين في الطب والفيزياء والكيمياء والأدب والسلام لمنحهم الجوائز في الذكرى السنوية لوفاته تقديرا لخدماتهم التي أسدوها للبشرية.
ركّز الحاكم برنانكي أبحاثه على أسوأ أزمة اقتصادية عرفها التاريخ الحديث. وهي الانهيار المريع في الأسعار المضخمة للأسهم والسندات في بورصة نيويورك يوم الخميس في 24 تشرين الاول 1929 ثم تفاقمت الأمور في الأيام التي تلته لتنقلب كسادا استمر نحو عشر سنوات أفلست خلالها مئات المؤسسات والمصارف وتكبد المدخرون خسائر فادحة اذ لم يكن هناك في ذلك الوقت أي نظام لضمان الودائع. كما تسببت الأزمة بفقدان الكثير من المعلومات المالية عن المقترضين ما انعكس سلبا على قدرة النظام المالي على استعادة كفاءته سريعا.
ويعزو برنانكي تفاقم أزمة عام 1929 الى سلوك المودعين الذين تهافتوا لسحب ودائعهم عند سماعهم أخبار ما حصل يوم الخميس الاسود، ما عمق الكارثة وأطال أمدها خصوصا مع الاستمرار في اعتماد سياسات نقدية انكماشية انعكست كلها أثارا تدميرية في الاقتصاد. وقد شرح في مقاله بعنوان "الآثار غير النقدية للأزمة المالية في اتساع رقعة الكساد الكبير" الذي نُشر عام 1983 تفاصيل الانحرافات التي أفضت الى تفاقم الكارثة، وأوضح فيه كيف أدى إحجام الناس لاحقا عن إيداع مدخراتهم في المصارف خوفا من خطر اختفائها مجددا، الى تخلف المصارف عن ممارسة دورها المحوري في تمويل النشاط الاقتصادي فاستمر الكساد لسنوات عدة .كما وحذر المصارف من تقديم القروض الطويلة الأجل خوفًا من أن تتعرض لسحوبات طارئة ضاغطة مرة أخرى.
الدراسات التي وضعها برنانكي عن كساد الثلاثينيات من القرن الماضي وعن الأزمة اليابانية في التسعينات ساعدته على تجنب تفاقم أزمة الرهونات العقارية التي ألمّت ببلاده خلال ولايته عام 2008. فقد بدأت هذه الأزمة بتعسر العائلات المتدنية الدخل في دفع مستحقات القروض التي أبرمتها لشراء مساكنها وانقلب الامر حالة من الذعر في الأسواق المالية لدى المتعاملين بصكوك الرهونات العقارية، ما أدى إلى تعثر الخدمات المالية وتسبب لاحقا في حدوث انكماش اقتصادي انتقلت تردداته الى مختلف أرجاء المعمورة.
تدخل نظام الاحتياطي الفدرالي بقيادة برنانكي بسرعة للمحافظة على السيولة المناسبة وتأمينها والحؤول دون إنهيار المصارف التجارية، واتّبع من أجل ذلك سياسة نقدية غير عادية وغير تقليدية قوامها اعتماد سعر فائدة أساس يساوي الصفر وشراء مكثف لسندات الدين من الاسواق، ما سمي لاحقا بسياسة التيسير الكمي (Quantitative Easing)، وقد نجح برنانكي من خلال السياسة المذكورة في تجنب شلل نظام الائتمان الذي كان من شأنه ان يوقع البلاد بالانكماش والركود، لكن مع تسجيل عوارض جانبية سلبية، تم احتواء ما أمكن منها مثل تضخم فقاعات المضاربة، وتفاقم عدم المساواة في الثروة.
زميلاه دوغلاس داياموند وفيليب دايفيغ عملا على صياغة نظرية توضح أسباب وجود المصارف وأهميتها كحاجة حيوية للمجتمعات، وهشاشتها في الوقت عينه. كما عملا على انموذج رياضي عرف باسمهما يقيس الذعر والهلع الذي يمكن أن ينتابا المودعين في حالات معينة كانتشار الشائعات السلبية عن وضعية المصارف وسيولتها، ما يدفعهم الى التهافت لسحب ودائعهم لديها (Bank run) فتشتعل عندها أزمة مصرفية تتمخض عنها اضطرابات يمكن أن تكون مدمرة للاقتصاد.
قد تتضمن الإجراءات الاحترازية لتفاقم خطر النقص في السيولة تقييد حق المودعين بسحب ودائعهم لغاية إلى حد معين خلال اليوم الواحد أو الأسبوع أو الشهر... ويتميز هذا التقييد بكونه ذا تأثير فوري. لكن ينبغي الانتباه والحذر من حجم المآسي التي يمكن ان يخلفها هذا النوع من القرارات
يرى الاستاذان داياموند ودايفيغ ان مبرر وجود المصارف هو في الحقيقة سبب هشاشتها. فالمودعون يفضلون الحصول على السيولة ليس فقط في المواعيد المحددة في عقود إيداعاتهم بل في أي وقت يحتاجون فيه الى مدخراتهم. أما المقترضون من المصارف فيحتاجون الى وقت لسداد ديونهم أو لتحصيل العائد على استثماراتهم. ما يعني ان وضع المصارف هو، نظريا وعلى الدوام، في حالة خطر النقص في السيولة، وهو وضع تتفاقم خطورته تحت ضغط ظروف معينة ما يستدعي عندها ضرورة اتخاذ القرار بتقاسم المخاطر المرتبطة بهذا الوضع الهيكلي للسيولة.
قد تتضمن الإجراءات الاحترازية لتفاقم خطر النقص في السيولة تقييد حق المودعين بسحب ودائعهم لغاية إلى حد معين خلال اليوم الواحد أو الأسبوع أو الشهر... ويتميز هذا التقييد بكونه ذا تأثير فوري. لكن ينبغي الانتباه والحذر من حجم المآسي التي يمكن ان يخلفها هذا النوع من القرارات وضرورة تضمينه آليات تُستجاب من خلالها الحالات الإنسانية والاستثنائية الملحة.
ويرى الاستاذان داياموند ودايفيغ ان تجاوز الصعوبة في وضع الحد الأقصى للسحب العادل والمتناسب مع الحياة اليومية للمودعين عموما، كما لجم عمليات السحب الضخمة، يمكن أن يتما من خلال تفعيل دور المصرف المركزي كمقرض أخير (Last resort) للمصارف وعبرها للإقتصاد أو من خلال اعتماد نظام لضمان الودائع مع إمكان وضع حد أقصى، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي حيث يقتصر الضمان منذ عام 2009 على 100,000 يورو لكل مودع. وهو أمر يطمئن المودعين الى حد كبير، لكن ليس صناديق الاستثمار.
عند بدء الأزمة المصرفية اللبنانية الراهنة، التي اعتبرها البنك الدولي واحدة من بين ثلاث أعتى أزمات عرفتها البشرية منذ منتصف القرن التاسع عشر، لم يتم التعامل بأي من توجهات الفائزين بجائزة نوبل، فقد عمدت المصارف، وبغض نظر من المصرف المركزي، الى إجراء تحويلات مكثفة الى الخارج لصالح الزعماء السياسيين والنافذين والمحظيين بلغت قيمتها على اقل تقدير ما بين ما بين ثلاثة وأربعة أضعاف قيمة التسهيلات التي تفاوض حاليا الحكومة اللبنانية للحصول عليها من صندوق النقد الدولي. وكانت الحجة ان الدستور يكفل الحرية الاقتصادية، والأكثر بشاعة أن هذه الحجة سرعان ما تم إسقاطها لتمارس المصارف نقيضها بتوجيه من البنك المركزي بفرض سقوف للسحوبات المصرفية مقترنة باقتطاعات (Haircut) فاقت الـ 75 في المئة للعملات الاجنبية!
والأغرب أن مصرف لبنان عاد فأجاز للمصارف فتح حسابات بالعملات الأجنبية المحولة حديثاً، سُمِّيت (Fresh account)، يتم تحريكها من دون أي قيد، بالتزامن مع حث للزعماء السياسيين والنافذين والمحظيين على إعادة نسبة من أموالهم المحولة الى الخارج. علما أن الاخيرين يتدارسون حاليا صيغة فضلى لمشروع قانون الكابيتال كونترول بدلا من تعريضهم للملاحقات القانونية لتسببهم في تفاقم الأزمة المصرفية الضاغطة!
من الواضح أن الجهاز المصرفي اللبناني لم يتعلم شيئا من الفائزين الثلاثة بجائزة نوبل للإقتصاد.
- استاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية