ثلاثة أسباب في المشهد الدولي، تدفع وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأستاذ العلاقات الدولية والمبعوث الأممي غسان سلامة إلى "القلق العميق"، تتعلق بالتغيير المناخي والازمات الاقتصادية، واستعمال القوة.
يضاف الى ذلك، "أمر خطر"، يتعلق بالسلاح النووي. ويقول سلامة في حديث الى "المجلة": "لا يمر يوم واحد في حرب أوكرانيا لا نسمع فيه بالنووي. هذا النوع من "التتفيه" للسلاح النووي أمر في غاية الخطورة لأن هذا التتفيه سينسحب أيضاً على الدول النووية الأخرى".
يوافق سلامة على وجود اسباب كثيرة تدفع الى الاعتقاد بانتهاء النظام العالمي الذي عرفناه في العقود السابقة. ويقول "اننا نرى أوجاع مخاض" ولادة النظام العالمي الجديد. الاوجاع تشير إلى تغيير بنيوي وليس إلى تغيير سطحي في تركيبة النظام العالمي، ولكن يصعب علينا أن نرى الوليد".
- هنا نص الحلقة الاولى من الحديث الشامل الذي جرى في باريس:
سبق وقلت في أجواء انتشار جائحة "كوفيد-19"، "إن العالم معتلّ ومريض". وتبيّن لاحقاً أن العالم بات عليه أن يتعايش مع الجائحة بالمعنى الواسع للكلمة. هل العالم مضطر الى التعايش مع "أمراضه" السياسية والاقتصادية؟
المشاكل التي يواجهها العالم اليوم متنوعة وبعضها خطير. اللائحة طويلة، لكن يجب أن نحاول حصرها بالأكثرها خطورة. أرى ثلاثة أسباب للقلق العميق، وكلها بمعنى من المعاني سياسي.
السبب الأول، هو التغير المناخي الذي يجعل من صعود مياه البحار وإمكان أن تُغطي مساحات من اليابسة. هذه التغيرات غير طبيعية بمعنى أنها من صنع الانسان. في الصيف الماضي، كانت هناك فيضانات غير مسبوقة في باكستان، بحيرات هائلة في الصين لم يعد فيها سوى ربع أو خمس كميات المياه المعتادة، موجات حرارة قاتلة في بلدان في شمال الكرة الأرضية مثل بريطانيا والمانيا.
التغير المناخي أمر من الصعب أن نقول إنه مجرد فرضية علمية. أنا مقتنع به مئة في المئة لكن مصدر القلق هنا سياسي. لأنه إذا كان معظم التغير المناخي سببه نشاط الإنسان فعلى الدول والحكومات أن تعالج هذه الظاهرة. وهي بدأت بذلك منذ بروتوكول كيوتو قبل 30 سنة إلى مؤتمرات واتفاقات مؤتمر باريس، لكن التنفيذ غير موجود. أولاً، لأن التنفيذ مكلف مادياً. ربما باستطاعة اوروبا أن تنتقل إلى اقتصاد لا يسرّع التغير المناخي لكن عددا كبيرا من الدول الأخرى عاجز عن ذلك مالياً. ثانياً، لأن جزءاً من الرأي العام لا يزال غير مقتنع فلا يضغط في هذا الاتجاه. ثالثاً، لأن هناك شركات متنفذة لا تريد لهذه السياسات أن تطبق فهي بالتالي تعرقل وتحوّل وتموّل لوبيات لعرقلة ذلك. رابعاً، وهو الاهم، أن حروباً ومشاكل تحصل، تؤجل أيضاً هذا الأمر. الألمان مثلاً كانوا على وشك إقفال ثلاث محطات نووية. مع حرب أوكرانيا وتوقف تدفق الغاز الروسي أصبحت هناك عودة إلى النووي وأيضاً إلى الفحم (الحجري).
- ومصدر القلق الثاني؟
مصدر القلق الثاني عندي هو في النظام الاقتصادي العالمي. ربما كانت المخاوف من انكماش كبير في النمو مبالغا بها بعد الجائحة ولكن من الواضح أن هناك تضخما مقلقا ولو أن حدّته تختلف من بلد الى آخر وأن التوقع الغالب اليوم هو في انكماش ولو ضئيل في النمو، حتى في الصين بعد خروجها من أسر سياسة صفر كوفيد التي أنهكت اقتصادها. هذا يعني أن الاستثمارات الخارجية التي شهدت نوعا من التباطؤ في السنوات الأخيرة ستبقى على مستواها في أفضل الأحوال. وهذا يعني أيضا أن المساعدات الخارجية للدول الأكثر فقرا لن تكون بمستوى الحاجات لا سيما إن أضفنا إلى الحاجات المعهودة النتائج الكارثية للحرب الأوكرانية وللفيضانات الباكستانية وللزلزال الرهيب في تركيا وسوريا. المنظمات الدولية المهتمة بالشأن الانساني تحدد أرقاما لما هو مطلوب في كل حالة ولكن التعهدات من قبل الدول الثرية لم تعد تفي بالحاجة بل أضف إلى ذلك أن التحويلات الفعلية هي بالإجمال أقل من التعهدات المعلنة. لذلك علينا أن نتوقع مزيدا من اللامساواة بين الدول وداخل معظم الدول حتى المتقدمة منها وهذا ما لا يطمئن على استقرارها.
- والثالث؟
- سياسيٌّ أكثر من الموضوعين السابقين وهو موضوع استعمال القوة. هناك خمسة أو ستة قرون من تراكم القوانين والأعراف في مجال حق اللجوء إلى القوة أو مجال سبل استعمالها بطريقة مقبولة أخلاقياً. منذ القرن الخامس عشر نشأ تراث وأصبح له جانب شكلي ومكتوب تحول منذ نحو قرن الى معاهدات واتفاقات مكتوبة أو متفاهم عليها. وجاء انتهاء الحرب الباردة ليعطي أملاً بأن استعمال القوة سيصبح استثنائياً بل صدرت الكتب والتحليلات التي تبشر بانتهاء الحروب تماماً. صحيح أن هناك عدداً من الحروب الأهلية نشبت بعد انتهاء الحرب الباردة، في يوغوسلافيا وفي آسيا الوسطى وفي عدد من الدول الأخرى، ولكن تم لجمها إلى حد كبير ولم تمتد إلى علاقات الدول الكبرى في ما بينها بل رأينا أن الدول الكبرى تتعاون أحياناً لحل هذه المشكلات. أتذكر مثلاً أنه كان لي بعض الدور البسيط في التوصل إلى اتفاق الطائف. وأقول اليوم إنه لولا البيريسترويكا والعلاقات الممتازة التي كانت قد نشأت بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية بعد 1988 التي سمحت بخلق جو مؤاتٍ، لكان من الصعب يومها التوصل إلى ذاك الاتفاق أو الى اتفاقات حل نزاعات أخرى تم التوصل اليها في الفترة نفسها، في السلفادور ونيكاراغوا وغيرها من مناطق النزاعات في العالم.
ليس فقط الدول العظمى توقفت عن تمويل الحروب بالوكالة في القرن الافريقي مثلاً بين اثيوبيا والصومال أو في لبنان أو في أماكن أخرى، لكن أكثر من ذلك هي ساهمت أحياناً في إطفاء عدد من الحروب من خلال التعاون، ومن خلال مجلس الأمن. لكن في القرن الحادي والعشرين رأينا أن هذه العشرية أدت بعد انتهاء الحرب الباردة الى شيء مختلف لدى القوة العظمى في العالم التي هي الولايات المتحدة. كسرت واشنطن كل الأعراف والقوانين وقرارات مجلس الأمن بغزو العراق في ربيع 2003. هذا الغزو كانت أسبابه ربما الشعور المبالغ فيه بالقوة والشعور بأن هناك ظرفاً تاريخياً مناسباً للولايات المتحدة لكي تتخلص من بعض الخصوم الذين يزعجونها. لكنها كانت سابقة في غاية الخطورة لأن الدولة العظمى والدولة التي كان لها الدور الأكبر في بناء المؤسسات الدولية لا سيما الأمم المتحدة سنة 1945، هي التي تُقدم على خرق هذه الأعراف والقوانين وتقوم بحرب غير مبررة، بل غير قانونية كما قال الأمين العام السابق كوفي أنان.