صوت الرائج

صوت الرائج

بين الأسباب التي دعت المفكر الفرنسي بيار بورديو، لكتابة محاضرتين "عن التلفزيون" عام 1996، ضمهما لاحقا كتابٌ حمل هذا العنوان، شعوره بالخطر الوجودي الذي يشكله التلفزيون، على الحياة العامة وعلى حرية الرأي والتفكير. رأى بورديو في التلفزيون خطرا حقيقيا "على الإنتاج الثقافي، على الفن والأدب والعلوم والفلسفة والقانون" ليصل إلى القول "أعتقد أن التلفزيون خطر حقيقي على الحياة السياسية وعلى الديمقراطية".

بالطبع كان بورديو يناقش، بين ما يناقشه، خصوصا السجالات والنقاشات التي يشهدها التلفزيون في البرامج الحوارية وغيرها، والتي لا تتيح المجال لطرح أيّ فكرة، بل إنها استهلاك سريع للأفكار، مستدلا بإحصائية في ذلك الحين تفيد بأن أيّ البرامج السياسية على الشبكات التلفزيونية الأميركية لا تتيح أكثر من سبع ثوان، لأي مشارك للتعبير عن رأيه. وهكذا فالتلفزيون أداة تحريض وتجييش أكثر من كونه فضاء للنقاش وإنتاج الأفكار المؤثرة في المجتمع وفي المجال السياسي والثقافي.

كتب بورديو هذا الكلام على بعد مسافة قصيرة من نهاية الألفية الثانية، ومن التحول الهائل الذي سيأتي بعدها بقليل (2004) مع ولادة فيسبوك، شبكة التواصل الاجتماعي الأولى والأكثر تأثيرا في حينه، والتي بمعايير بوريدو، الذي وافته المنية قبل سنتين فقط من انطلاق فيسبوك، ربما كانت لتشكل ردا على التلفزيون، بوصفه مكانا لحجب النقاش واختزاله، ولاسيما أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تتيح للصحافيين والمفكرين والنشطاء في المجالات العامة فحسب، منصة للتعبير وبقدر ما يريدون ومتى ما أرادوا وفي القضايا والمواضيع التي يريدونها (بتفاوت)، بل تتيح هذه الميزة التشاركية نفسها للجميع.

لكن، هل نستطيع القول بثقة إن وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت أثرا بناء وأكثر إيجابية على النقاشات العامة؟ وهل أعطت بالفعل مجالا أوسع للديمقراطية وحرية التعبير؟ الإجابة في كلا الاتجاهين قد تكون سهلة لكنها غير حاسمة. فقد يقول المنافح بأن وسائل التواصل الاجتماعي هي الردّ الطبيعي والحلّ الأمثل على "حصرية" التلفزيون بوصفه أداة تتحكم بها إرادة أقليات نافذة (اقتصادية أو أيديولوجية أو سياسية أو سلطوية أو دينية أو ثقافية إلخ)، ولن يكون مخطئا في ذلك. وبوسع صاحب الرأي المضاد أن يدحض ذلك بالقول إن آليات التحكم والحجب والتوجيه نفسها، التي حكمت في الماضي وتحكم اليوم التلفزيون، تحكم في زمننا هذا شركات التواصل الاجتماعي، التي في نهاية المطاف لها أجندات تسعى إلى تحقيقها، وأيضا تتحكم بها في نهاية المطاف أقليات نافذة، من شركات ورجال أعمال وحكومات.

ليست مبالغة القول إن الهموم نفسها التي دفعت بورديو وغيره من المفكرين إلى مساءلة التلفزيون، وقبله الإذاعة والسينما والصحافة الورقية، والمرتبطة بدور وسائل التعبير هذه في الفضاء العام، تنطبق بقدر كبير اليوم على زمن التواصل الاجتماعي، بفارق أننا انتقلنا من اختزال واضح وصريح ومدار جيدا للأصوات التي يمكنها أن تتكلم (والوجوه التي تظهر)، إلى فتح تام لجميع القنوات التي من شأنها إطلاق "حرية التعبير"، بالصوت والصورة، لكن ذلك لم يعن أن حرية التعبير تقدّمت حقا، وأن النقاش العام، الذي كان مقننا سابقا، حول أي مسألة أو قضية من القضايا، وبات مفتوحا، أثمر وعيا أو خطابا سياسيا يمكنه التقدم بهذه القضايا وتحقيق نتائج فعلية للنقاشات السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية.

 

ليست مبالغة القول إن الهموم نفسها التي دفعت بورديو وغيره من المفكرين إلى مساءلة التلفزيون، وقبله الإذاعة والسينما والصحافة الورقية، والمرتبطة بدور وسائل التعبير هذه في الفضاء العام، تنطبق بقدر كبير اليوم على زمن التواصل الاجتماعي

 

في زمن التلفزيون، كان كلّ  واحد منا يجلس ويشاهد الآخرين وهم يتناظرون ويتجادلون، أما اليوم فنحن فعليا وحتى إن لم ننخرط بصورة آنية مباشرة، فإننا بتنا نشاهد أنفسنا طوال الوقت. مليارات الصور والفيديوهات والتعليقات المتدفقة عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، لم تحجب التفكير فحسب، بل جعلت من التفكير (والتصريح والتعبير) غير ذي قيمة حقيقية. وفي المقابل فإن الجانب التحريضي الفعلي للتلفزيون الذي تحدّث عنه في محاضرتيه، ذاكرا على سبيل المثال قرب نشوب نزاع مسلح في ذلك العام نفسه، أي 1996، بين تركيا واليونان، على جزيرة "كارداك"، بسبب التحريض التلفزيوني، انتقل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه المرة بمشاركين أكبر بكثير، ولنا في حرب أوكرانيا وروسيا، أو في اجتياح الكابيتول عام 2021، أو في الدور المزعوم للصين وروسيا وإسرائيل، في التأثير على انتخابات عدد من الدول، أدلة صريحة على الجانب التحريضي للتواصل الاجتماعي، وهو أيضا غير بريء من التحكم الأيديولوجي في كثير من الأحيان. وتوضح البيانات الأخيرة المتعلقة بشبكة تويتر على سبيل المثال، بعد سيطرة إيلون ماسك عليها وتغيير سياسات وآليات عملها، أن الأصوات اليمينية والعنصرية والمنادية بتفوق العرق الأبيض وغيرها، احتلت مساحات أوسع بكثير من تلك التي كانت تحتلها سابقا. قد يعزو إيلون ماسك الأمر دعائيا إلى جدل غير محسوم حول ضرورة إفساح حرية التعبير للجميع – بمن فيهم من يرتكبون جرائم الكراهية ومن يميلون إلى ارتكابها، إلا أن الجميع يعرف أن حساباته مالية وإعلانية وربحية بحتة (في الولايات الأميركية المتحدة وحدها بلغ إنفاق الشركات في 2022 على الترويج عبر التواصل الاجتماعي، 56 مليار دولار).

في زمن التلفزيون، كان كلّ واحد منا يجلس ويشاهد الآخرين وهم يتناظرون ويتجادلون، أما اليوم فنحن فعليا وحتى إن لم ننخرط بصورة آنية مباشرة، فإننا بتنا نشاهد أنفسنا طوال الوقت

 

 

بحسب بيانات شركة الإحصاءات "ستاتيستا" فإن مستخدم الإنترنت، عالميا، يمضي 147 دقيقة يوميا على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، مرتفعا من 90 دقيقة عام 2012، وبالمقارنة مع إحصاءات قراءة الكتب، فيبدو لافتا أن ثلث المراهقين الأميركيين في 2021 لم يقرأوا كتابا طوال العام بسبب انشغالهم بشبكات التواصل الاجتماعي ومنصات الألعاب، بحسب تطبيق "باسمو" المتخصص ببيانات القراءة، وعلى الرغم من ارتفاع سوق الكتب الرقمية بصورة ملحوظة خلال السنوات القليلة الماضية، فإن الغلبة ما زالت للكتاب الورقي في البلدان الخمسة المتصدرة في مؤشرات قراءة الكتب (بحسب "ستاتيستا)، وهي الصين والولايات الأميركية المتحدة والمملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، وهذا إن أشّر إلى شيء فهو يؤشر إلى أن طغيان استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصا، لا ينعكس طغيانا لاستهلاك المعرفة على تلك الوسائل، بل ما زال الراغبون في القراءة الجادة يلجؤون إلى الكتاب المطبوع.

أحد الذين تنبهوا إلى مخاطر "العالم الافتراضي" هو المفكر والمؤرخ والروائي الإيطالي إمبرتو إيكو، الذي توقف في نقاشاته حول الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، عن الدفق الهائل للمعلومات، لاسيما الزائفة منها، الذي يجعل شبه مستحيل التيقن منها في الزمن الحقيقي، إذ في الوقت الذي تتضح فيه حقيقة معلومة ما، يكون أثرها قدّ تمّ على معظم متلقيها (الخبر الأعلى رواجا على فيسبوك خلال انتخابات 2016 في الولايات المتحدة، يقول: "البابا فرانسيس يدعم ترامب للرئاسة")، وهو ما دفع إيكو إلى القلق، وقبل مرحلة "تشات جي بي تي" من طغيان الافتراضي على الحقيقي. ففي مقالة له بعنوان "حفيدي العزيز تعلم أن تحفظ" يقول من خلاله لمراهقي زمننا إن العالم الافتراضي "فخّ يجبرك على عدم الخروج من البيت والتعرف إلى فتيات حقيقيات... سيأتي يوم تكتشف فيه أن الفتيات الحقيقيات هنّ الأفضل".

في كتاب بورديو نفسه، "عن التلفزيون"، يناقش التغطية التلفزيونية للألعاب الأولمبية، ليخلص إلى القول إن مواقيت وأنماط وأسلوب عرض هذه المنافسات، يحكمها التلفزيون، بل إن هذه الألعاب لا تعدو كونها حدثا تلفزيونيا بالنسبة إلى عالم الاجتماع الفرنسي وبالتالي فلا أحد يمكنه الزعم أنه شاهد تلك الألعاب، بقدر ما شاهد أجزاء متقطعة منها، وفي موضع آخر من الكتاب نفسه يتحدث بورديو عن الـ trends أو المواضيع الرائجة، التي يتبعها الصحافيون والمعلقون، وهي الكلمة التي باتت من المصطلحات الأساسية في زمن التواصل الاجتماعي، بل إن جميع شبكات التواصل تخبرنا على مدار الساعة ما الموضوع الطاغي الذي نتحدث عنه. وما يصح على الأولمبياد في تسعينيات القرن الماضي، يصحّ بصورة أكثر على كلّ شيء آخر اليوم، فنحن نتحدث عن كل شيء ولا نتحدث عن أيّ  شيء في الوقت نفسه، وذلك كله تحت راية "المواضيع الرائجة".

وعليه، في جميع غرف الأخبار حول العالم، لا تستغرب إن سمعت أحدهم يقول اليوم، خلال مناقشة كارثة زلزال تركيا وسوريا، على سبيل المثال لا الحصر: لم يعد أحد يتحدث عن الموضوع على الإنترنت، فلننتقل إلى موضوع آخر.

font change