انطلقت مسيرة أنطونيو سكوراتي، أستاذ الأدب المعاصر وفنون السرد في معهد اللغات الحديثة بجامعة ميلانو، الأدبية عام 2002 برواية "ضوضاء المعركة الصمّاء"، وفي عام 2005، فازت روايته "الناجي" بالنسخة الثالثة والأربعين لجائزة كامبييللو المرموقة، وحازت رواياته الأخرى أيضا جوائز متفرقة وترجمت إلى العديد من اللغات، مثل "الطفل الذي حلم بنهاية العالم" (2009)، "الأب الخائن" (2013) و"أفضل وقت في حياتنا".
بعد نحو ربع قرن على إصدار آخر مجلد من العمل الضخم للمؤرخ الإيطالي الكبير رينزو دي فيليتشه عن حقبة موسوليني، الذي نُشر على مدار ثلاثين عاما في ثمانية مجلدات، وربما أيضا بسبب تجدّد الفضول نحو الفاشية وزعيمها الذي أثاره صعود نجم حزب "إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف خلال السنوات القليلة الماضية، ثم فوزه الكاسح في انتخابات 25 سبتمبر/أيلول من العام الماضي، بقيادة رئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني، اختار سكوراتي أن تكون هذه الشخصية المثيرة للجدال محور أعماله في السنوات الأخيرة، بعدما اكتشفت إيطاليا، ومعها العالم، أن حضور موسوليني لم يتبدّد مع الزمن، بل ازداد باطراد وبات حديث السياسة والمجتمع في الآونة الأخيرة.
بعد رواية"م.ابن القرن"،الحائزة جائزة "ستريغا" عام 2019، و"م. رجل العناية الإلهية"، صدرت أواخر العام الماضي، بالتزامن مع الذكرى المئوية للزحف على روما، الرواية الثالثة من هذه السلسلة، "م. آخر أيام أوروبا"، المكرّسة للفاشية وزعيمها بنيتو موسوليني، ومضمونها فترة الثلاث سنوات الحاسمة بين عامي 1938 و1940.وكما حدث مع الروايتين السابقتين، حققت هذه الرواية أيضا نجاحا كبيرا، ولا تزال تحتل الصدارة في قائمة الكتب الأكثر مبيعا.
سرد واقعي/ متخيّل
في الواقع، محاولة الكاتب المعلنة لعدم إعادة كتابة "قصة" موسوليني، بل سرد حياته في شكل "رواية" كانت ناجحة تماما، فنرى المؤلف يلتزم وقائع حياة موسوليني والفاشية التي نعرف الكثير عنها بفضل الكتب والأفلام والدراسات التي لا حصر لها. لكن يمكن القول أيضا إن الكتاب، بشموليته، هو في الأساس كتاب تاريخ، إنما بأسلوب روائي لا يخلو من الصبغة الخيالية، وذلك من خلال الإشارات المتكررة إلى غراميات موسوليني التي لا تعرف الكلل، من بينها علاقته بفتاة من ميلانو تدعى بيانكا تشيكّاتو، أنجب منها موسوليني ابنا، يُدعى غلاوكو، وبعض المقاطع "المبتكرة"، مثل القصص الخاصة جدا وحتى التقلّبات والحالات المزاجية للعديد من الشخصيات، التي يجعلنا المؤلف مشاركين فيها. في نقطة معينة، على سبيل المثل، يقضي الدوتشه، في ميلانو، أمسية، ويسأل نفسه: "لماذا لا نذهب لنرى ذلك الكازينو الجديد حيث توجد الفتيات الصينيات؟". وقد يكون هذا حدث بالفعل لكنه يظل مصدر استلهام للخيال الروائي.
تبدأ الرواية بتاريخ له دلالات كثيرة، 3 مايو/أيار 1938، حيث موسوليني، رفقة فيتوريو إيمانويل الثالث (ملك إيطاليا 1900-1946، أمبراطور إثيوبيا 1936-1943، المشير الأول للأمبراطورية 4 أبريل/نيسان 1938، وملك ألبانيا 1939-1943) ووزير خارجيته جان غالياتسو تشانو، ينتظر القطار الذي يحمل هتلر وجنرالاته إلى إيطاليا في زيارة ستشمل روما ونابولي وفلورنسا. قبل أسابيع قليلة من ذلك التاريخ، كان هتلر قد أعلن ضم النمسا، وكان موسوليني، من جانبه، بعدما قرر خروج إيطاليا من عصبة الأمم، يستعد لإصدار القوانين العنصرية وخلق مجتمع جديد مستلهم من المقومات العسكرية والسياسية والاجتماعية للأمبراطورية الرومانية، وفوق كل شيء، "تنظيف اللغة الإيطالية من الشوائب الأجنبية". فخلال الفترة الممتدة من عام 1922 إلى عام 1943، استبدل موسوليني النظام الديموقراطي بالديكتاتورية، أو بالأحرى الفاشية. خلال هذه الفترة، منعت الفاشية منعا باتّا استخدام الكلمات الأجنبية في لافتات المحلات، والإعلانات، وأسماء الشوارع والفنادق،وواحدة من أكثر الكلمات استخداما خلال فترة الديكتاتورية كانت بالتأكيد كلمة "دوتشه"، وهو مصطلح في اللاتينية، في زمن الرومان القدماء، كان يعني "الزعيم"، أو "القائد"، والذي كان على الإيطاليين استخدامه للإشارة إلى موسوليني. لكن الجوانب الأخرى كانت الأكثر صرامة. بادئ ذي بدء، منع النظام الفاشي استخدام اللهجات بشتى أنواعها، ثم أخذ يضطهد الأقليات التي تتحدث لغات أخرى.