"استراحة بين شوطين": جولة في ميدان كرة قدم الحرب اللبنانيّةhttps://www.majalla.com/node/286586/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AD%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B4%D9%88%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D8%AC%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D9%82%D8%AF%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%91%D8%A9
هذا الإهداء الموجّه من الشاعر والأستاذ الجامعي ولاعب كرة القدم السابق فوزي يمين إلى ابنه جاد يتصدّر الصفحة الأولى من كتابه "استراحة بين شوطين" الصادر حديثا عن "دار المتوسط".
تلك الحياة انتزعت من الموت وحاولت أن تجد لنفسها معنى وهدفا في زمن انفجار الحرب الأهليّة اللبنانيّة وما خلفته من سعار مذهبي وهوياتي، ارتدت معه كرة القدم البزّة العسكريّة رمزيّا وفعليّا، وبات كلّ فريق عبارة عن جيش مصغر يخوض أفراده رغما عنهم معارك الطائفة والجماعة.
ترصد اليوميّات كيف تشكّل عالم كرة القدم في تلك المرحلة (1975-1990) انطلاقا من الحارة، وكيف كان مجبولا بالبساطة وقادرا على تفجير كلّ الرمزيّات الخاصة بالحرب واستبدالها برمزيّات موازية.
إصابات الملعب وندوب الحرب كانت تتجاور لكنّها لا تلتقي ولا تتوحد.
يسرد يمين كلّ هذه الأحوال عبر سلسلة من العناوين يمنحها صيغة اللافتات أو الإشارات. يحاول أن يقيم متحفا حيّا لذاكرة ترصد كرة القدمكحالة تفسّر على أساسها أحوال العالم، ويجري كلّ شيء وينتظم وفق إيقاعها ومزاجها.
نشهد غزارة في التفاصيل والإحالات، ونعثر على تاريخ كرة القدم في طورها المحلي والعالمي والأبعاد النفسيّة والسياسيّة المرتبطة بها والترميز المكثف الذي يحمله أبطالهافي إطار موجز ومكثّف، يظهر فيه عالمها وكأنه شعر خالص معيش تكتبه أجساد لاهثة تركض وراء كرة تضم سحر العالم كلّه في قلبها.
الحارة ملعبا
الملعب كان المكان كله في الحارة، وكان متصلا بالبيوت كأنه شرفتها أو باحتها الخارجيّة. كان طقس اللعب منزليّا وأليفا أكسبه التكرار متانة العادة وسطوتها.
هكذا كانت زيارة الشخصية الغامضة التي كان يطلق عليها لقب "المستكشف" تدرج في إطار حكاية ضيف غامض وغريب يصطاد النجوم من خلال مراقبةلعب الأولاد في الحارات.
جلّ أبطال كرة القدم خرجوا من بطون الحارات التي كانت تصنع النجوم من المكابدة، من الوحل والغبار، ومن سير تفترض القدرة على بذل جهود شاقة لترتيب شؤون التدريب وواجبات الدراسة والحياة اليوميّة.
كانت الحارة تنتج كذلك حكايات تتفاوت بين الطريف والمأسوي، لكنها تعبّر في المطلق عن نموذج اجتماع وعيش بات مفقودا.
دمّرت الحارة التقليدية وحلت مكانها منشآت وتجمعات سكنيّة لم يفقد معها البيت صلته مع الملعب وحسب بل بات المكان العام معاديا طاردا.
كانت صور القديسين في نظر اللاعبين، غريبة على البيوت والقلوب، بينما احتلت صور اللاعبين المقام الأعلى ملصقة على الجدران والخزائن ومحفورة في القلوب والسرائر
القاتلان: الحرب وكرة القدم
إذا كانت الحرب تحقق سطوتها بالقتل، فإن كرة القدم تفعل ذلك أيضا فهي تقتل أبطالها فعليّا حين يذوي وهجهم وتحيي غيرهم، وتفعل ذلك رمزيّا على مستوى الشعوب والأمم، فهي مجال الظهور المطلق كما أنّها مجال الاختفاء والتغييب.
قصص الذين قتلتهم كرة القدم تحضر بقوة، وإذ يشير الكاتب إلى قصص اللاعبين المنتحرين المعروفين، يعرج على قصة لاعب محلي شنق نفسه في المهجر بشريط حذائه الرياضي، مؤكدا بذلك أن إهدار الفرص في اللعب يستجلب إهدار الدم بطرق عديدة، لا يكون الموت أو الانتحار سوى تتويج لها.
لم يستطع الكثير من اللاعبين المحليين والعالميين أن يتحمّل سحب المكانة والحرمان من نشوة التبجيل التي تجعل المرء يحس نفسه خالدا ومتفوقا على العالم. انسحب بعضهم من الحياة العامة وقطع علاقته بكرة القدم نهائيّا، في حين اختار بعضهم إنهاء حياته. كرة القدم مقامرة خطيرة وفرص الربح فيها ضئيلة. وراء ضجيج الملاعب وهدير الجماهير لا يوجد سوى الصمت الرهيب والكامل.
القديسون الغرباء
كانت كرة القدم في مجالها اللبناني قادرة على جرّ كلّ حدث إلى مجالها. كانت صور القديسين في نظر اللاعبين، وفق ما يرويه يمين، غريبة على البيوت والقلوب، بينما احتلت صور اللاعبين المقام الأعلى ملصقة على الجدران والخزائن ومحفورة في القلوب والسرائر.
أما السلوكات الشخصيّة فاتخذت من سير اللاعبين مرجعا ومصدرا لها، وبذلك غابت الولاءات التقليديّة، وكانت الصفة التي تجعل المرء لاعبا، تتحدد في أنّه حرّ من الانتماءات التي تأسر المرء في حيّز ضيّق، فالولاء الوحيد هو لكرة القدم وللنادي، والجدارة تتحقّق داخل محيط محلي يتسّع ليضمّ العالم كلّه. كان اللاعبون يسعون لكي يكونوا أبطال أصدقائهم وأهلهم وجيرانهم، وذلك منتهى المجد والطموح.
الـvhs وتخليد اللّعب
في زمننا هذا لا يستطيع أيّ حدث مهما كان، الصمود والتكثف، إذ سرعان ما يضطر لإخلاء المكان لحدث جديد. لا تخرج كرة القدم عن هذا الترتيب. الحدث فيها لا يغادر لحظة تسجيل الأهداف، عندما تنفجر النشوة وتموت المباراة نفسها وكلّ ما جرى فيها ولا يبقى سواه. الهدف صار طريقة لتمويت اللعب والقضاء عليه.
عالم أشرطة الـ vhsالذي يرصده الكاتب ينتمي إلى سياقات تشجيع باتت اليوم غابرة ومفقودة.
فكّكت تقنيّات اليوم هذا النزوع الذي ينطوي على رغبة تخليد اللعب نفسه والدفاع عن جماليته التي يولد منها الهدف ويكتسب قيمته من خلالها، ولا يكون من دونها سوى طفرة عبثيّة لا قيمة لها. طقوس إعادة مشاهدة مباراة كاملة لا تنتمي إلى عالم اليوم.
مايسترو الوسط
لم يكن الكاتب لاعبا مهاجما بل لاعبا في خط الوسط، ويجتهد في أن ينسب لنفسه ولصديقه أنطونيو معوض الملقب "بو علي" تغيير منطق اللعب في هذا الموقع. وصفته الجماهير بالمايسترو، ويعتبر أنه أخرج هذا الموقع من دائرة الفوضى والعشوائيّة، وأدخل إليه التقنية المتفاهمة مع المتعة، والمتناغمة مع الصرامة والانضباط.
ينحاز يمين إلى تلك المتعة الخاصة المتأتية من صنع اللعب وخلق الفرص وذكاء التمرير، فإذا كان المهاجم يسجل الأهداف فالمايسترو يصنع المباراة بكاملها ويمتلكها، ويعطي نفسه الحق في أن يهبها لمن يشاء.
وكما كان اللعب يبنى من خط الوسط، كان البلد يتشكل من شبابيك بوسطات كانت تقلّ اللاعبين بعد السماح لهم بعبور مناطق التماس. كان العالم الممتنع والممنوع يظهرأليفا ومألوفا من نوافذ الحافلة ويبنى من خلالها، مثلما كانت المباريات تبنى من خلال خط الوسط.
أسّس يمين تقنية كروية في الملعب اللبناني بوصفها عمليّة بناء دائمة كانت في مغزاها الأعمق دفاعا مستميتا عن التعقل وجماليته، ووضع انضباط اللعب في مواجهة فوضى الكراهيات.
لم يعد اللاعبون يعبرون الأندية والمناطق، وباتت الأندية عبارة عن تجمع طائفي لا يملك من يلعب فيه الخروج على هذا المنطق، وانقسمت الأمور بين شرق العاصمة بيروت وغربها
في مهب التطييف
يعود تاريخ كرة القدم في لبنان، بحسب الكتاب، إلى عام 1908 وقد بدأت في صفوف طلاب الجامعة الأميركية في بيروت، في حين تأخّر تأسيس الاتحاد اللبناني لكرة القدم إلى عام 1933.
لم يصب التطييف كرة القدم إلا مع الحرب. قبلها، في سبعينات القرن الماضي، كانت جماهير "نادي النجمة" تخرج من حيّ النبعة الذي تقطنه غالبية شيعية ويحاذي برج حمود الذي كان تاريخيّا معقل فريقَي "الهومنتمن" و"الهومنمن" الأرمنيين ومركزا لاجتماع فرق "الراسينغ"، "الحكمة"، و"الاستقلال"، لملاقاة جمهور بيروتي وجمهور قادم من الضاحية الجنوبيّة.
ابتلعت الحرب كرة القدم وجعلتها أحد عناوينها. تمترس المسيحيون خلف فريق "الراسينغ" الذي كان يسيطر على اللعبة تاريخيّا، وجمع التشجيع الأرمني تناقضات حزبي "الطاشناق" و"الهانشاق"، في حين تمسّك المسلمون بأندية "الأنصار" و"التضامن" و"النجمة".
لم يعد اللاعبون يعبرون الأندية والمناطق، وباتت الأندية عبارة عن تجمع طائفي لا يملك من يلعب فيه الخروج على هذا المنطق، وانقسمت الأمور بين شرق العاصمة بيروت وغربها. تبعت ذلك تغييرات في رئاسات الاتحاد تستتبع التوزيعات الطائفيّة والولاءات، وكان قرار الاتحاد حصر البطولة في أندية المنطقة الشرقية بمثابة بوسطة عين الرمانة الكرويّة إذ أدى إلى تفجر الاتحاد ومهد لخلق اتحاد 2 مايو/ أيار 1985 الذي منح الرئاسة للطائفة الشيعيّة والأمانة العامة للدروز.
في ظل تنامي هذه الظروف يصف الكاتب جو انتصار فريقه "السلام زغرتا" على فريق الأرمن في المبارة النهائيّة لبطولة لبنان 12 أبريل/ نيسان 1987 قائلا: "يلعلع رصاص كثيف لم نشهد مثله في حياتنا ولم تعرفه البلدة منذ فترة زمنيّة طويلة. يئز الرصاص فوق رؤوسنا من كلّ الجهات. نمشي على فراغات الرصاص نسمع طقش أقدامها فوقها. ينسينا الانتصار الحرب".
طقس الاحتفال هذا، شرّعته الحرب وكان يستعاد في مناسبات مختلفة ومتناقضة. كان الرصاص يطلق ابتهاجا وفي تشييع القتلى وفي استقبال العائدين من الحج، وكان يطلق تعبيرا عن البهجة أو الشماتة. كان ممنوعا أن يغادر أي طقس جو الحرب بل ظلّ لزاما عليه أن يعكسه.
تحولت لعلعة الرصاص نوعا من قتل رمزي، وتحول دويّها الذي يمشي الأبطال عليه صدى صوت جماجم الأعادي وهي تسحق. لم تعد الكرة قادرة على الخروج من رمزيّة القصف. لحظة نسيان الحرب تلك كما يصفها الكاتب كانت جزءا أساسيّا منها.
الإيقاع لعبا وكتابة
الإيقاع كما ينظر إليه الكاتب ليس تقنية ولا طريقة، بل هو ما يخلق اللعب والكتابة. الوصول إليه في اللعب يفترض طقوسا من التكرار اليومي للتمارين وانتظامها، وفي الكتابة لا بد من انتظاره، لكنّه في كل الأحوال قد يخون ويهرب لأنّ الميدان يفرض شروطه الخاصة التي لا يمكن التنبّؤ بها.
من يقتلون أنفسهم في التمرين قد يبتلعهم الملعب وتعرّيهم المباراة، ومن يحاولون استجلاب الكتابة بطقوس التكرار قد تفرّ منهم. الإيقاع هو ميزة تأتي من اكتمال الموهبة والثقة والممارسة. إنه تجميع لخلاصات الإيمان بأمر ما والتركيز التام عليه ولا يتحقّق بالطلب والاستدعاء بل لا يكون قائما إلا إذا تحوّل إلى جزء من طبيعة اللاعب أو الكاتب.
أن تلعب وكأنك ترقص وأن تكتب بسلاسة وكأنّك تعانق حبيبة. هذا النبات الشيطاني للكمال لا ينبت في الغرف المغلقة، بل يتجلى في الطبيعة حيث يتحرك كلّ شيء داخل فضاء الإيقاع الذي يعني الانسجام مع الوجود واللعب والكتابة.
صدر هذا الكتاب بالتزامن مع بطولة كأس العالم، الحدث الكرويّ الأبرز الذي ينتظره العالم كلّ أربع سنوات، ولعل مفاهيم كرة القدم وعالمها كما تظهر فيه تبدو غريبة عما يجري في مباريات كأس العالم.
يتطلب اللعب رأسا فارغا على قول يمين: "أنا مفتاح اللعب، والملعب بابي، أدخله برأس فارغ". ذلك الرأس الفارغ كان ممتلئا بالرياح والحريّة واللعب بينما حين ننظر إلى أبطال المونديال ونجومه والبهرجة الخرافيّة التي تحيط به نجد في رؤوس أبطاله ونجومه ومدرّبيه سلاسل لا تنتهي من الحسابات، وقبائل من المحاسبين. هكذا يكون اللعب المتوقع حسابيا ومحسوبا وحاسوبيّا والمغامرة باتت مستهجنة ومرذولة.
غاب اللعب عن اللعبة وباتت كرة القدم ميالة إلى التجهم والعبوس المغاير للجديّة والصرامة. صارت أقرب إلى أن تكون حالة ديجيتاليّة ولم يعد همّ اللاعبين ينصبّ على مغازلة الجماهير والحرص على إمتاعها، بل على مغازلة الآلات التي تسجّل كلّ حركاتهم وسكناتهم، وتمنحهم أمجادا إحصائيّة.
فوزي يمين المايسترو ورفاقه كانوا يلعبون لأجل أنفسهم ولأجل الجمهور. يمكن أن نقول إنّ لعبة كرة القدم في مهرجانها المونديالي المشتعل حاليا، وعلى الرغم من الاهتمام الجماهيري الكبير بها، صارت لعبة لا تتوجه إلى الجمهور بل تعبر من خلاله، وفي ذلك فرق كبير وحاسم.