ما الذي ينبغي أن نفهمه من الشحّ المبالغ فيه الذي أصبح يطبع القنصليات الأوروبية، والفرنسية على الخصوص، إزاء تمكين مواطني الجنوب من تأشيرات ولوج الأراضي الأوروبية، وخصوصا أن هذا الشحّ بلغ أخيرا مداه الأقصى، وأصبح نوعا من العقوبة التي تُفرض على مواطني المغرب العربي في وجه خاص، لتحرمهم من دخول تلك الأراضي إذا لم تستجب دولهم للشروط التي يضعها أصحاب القرار في أوروبا؟
ينظر هؤلاء إلى منع التأشيرة، أو استجابة إصدارها بنسب معيّنة تتقلص يوما بعد يوم، على أنه نوع من العقاب والحرمان، فكأن التأشيرة لم تعد، في نظرهم، مجرد أداة لمراقبة حركات العبور، وإنما أصبحت صكا من صكوك الغفران التي كان كهنة الكنيسة الكاثوليكية ورهبانها يبيعونها لحصول الشخص على الغفران مقابل مبلغ مادي، مع ما يترتب على ذلك من خلاص واقتحام أبواب الجنة وليس فقط حدود أوروبا.
لم تكن الدول تلجأ إلى مثل هذا التضييق عندما كانت ترغب في إيقاف حركات العبور أو تقليص سيولتها، فكانت تعمل، مباشرة وبكل وضوح، على إقامة جدران تحول دون ذلك. غير أن إقامة الجدران سرعان ما كشفت عن مفارقات كبيرة. فبقدر ما كانت تسعى لأن تُظهر عظمة الدولة التي أقامتها وقوتها و"صلابتها"، كانت تشهد على إخفاق تلك الدولة في ضبط حدودها ونشر سيادتها، أو فرضها فرضا. يكفي دليلا على ذلك عجز أكبر الدول العظمى عن وقف الهجرة المكسيكية من طريق إقامة الجدار. لذا اعتقد الجميع، بسقوط جدار برلين، أن عهد الجدران قد ولّى، وأن الإنسانية مقبلة على عهد الانفتاح والتواصل. وعلى الرغم من
ذلك، فإن العشرين سنة الأخيرة عرفت إقامة أزيد من عشرين جدارا مختلفة الأحجام والأطوال والأدوار، إلا أنها لم تحقق الأهداف المتوخاة منها. الأمر الذي دفع بعض الدول إلى أن تلجأ إلى طرق أكثر "ذكاء" فسعت إلى إقامة جدران من "طينة" أخرى، أقل "صلابة" وأخف حضورا، وأقل وضوحا، لكنها ربما أكثر فاعلية. هذه الجدران ليست مثل تلك التي تقام بالحديد والاسمنت، والتي تتبدى عاتية عالية نحو السماء، وإنّما تلك التي تتخفّى وراء قوانين تشريعية، أو مؤسسات إدارية، أو وزارات تحمل أسماء مراوغة، كوزارة الهجرة، أو وزارة الهوية الوطنية، أو حتى وزارة "الاندماج" والتكافل. ليست مهمة هذه الوزارات بطبيعة الحال "السهر على الحدود"، وإنما "بناء" جدران "غير مرئية" وغرسها في الوجدان والعقول، عقول المواطنين وعقول الوافدين. لعل أخطر الجدران وأشدها صلابة ليست هي المكوّنة من اسمنت وحديد، وإنما هاته التي تنتصب داخل الأدمغة. هنا تصير الحدود أمرا شكليا، فتعطى الأهمية الكبرى لهذه الجدران الجديدة التي تفصل البشر وفق ألوان بشرتهم، وأنواع قيمهم وأشكال ثقافاتهم. يشهد على هذا "النجاح" وهذه الفاعلية، ما يروج في أغلب العواصم الغربية، التي لا تكفُّ عن ترديد عبارة "التعدد والاختلاف"، من مقاومة عنيدة لكل أشكال العبور. لا نعني هنا أساسا لجوء بعض تلك العواصم إلى التجسيد المادي لكل أشكال الانفصال التي لا نفتأ نستشعرها كلما طلبنا "تأشيرة" عبور، مهما كان شكل العبور الذي نرومه، كما لا نقصد فحسب هذه الجدران التي لا تفتأ عواصم الغرب تزرعها، لا في نفوس من يَفِدون عليها فحسب، وإنما في نفوس أبنائها ومواطنيها، وإنما نعني تبَنِّي تلك العواصم أفقر أشكال الهوية، وأكثرها سكونا وانغلاقا، وأقلها حركة وانفتاحا. تلك هي الجدران الأنطولوجية الوجودية التي تعود بنا إلى مفهوم قبل-جدلي عن الهوية يردها إلى أفقر أشكال التطابق، وينزع عنها كل حركة، وينفي عنها قدرتها على العبور، ويحول بينها وبين توليد الفوارق إقحاما للآخر في الذات.
تدلّ إقامة الجدران على عجز الثقافة عن الاعتراف بالآخر والتساكن إلى جنبه، بل ربما على إنكاره وعدم الاعتراف بوجوده، فإن الحدود، على العكس من ذلك، هي ما يسمح بلقاء الآخر
قد يقال من الطبيعي أن تعمل الدول على حماية حدودها، ومراقبة حركات من يعبرونها. هذا أمر لا جدال فيه، ولكن شريطة أن نميز الحدود عن الجدران، وخصوصا تلك الجدران التي تسكن الأدمغة. فالحدود وليدة اتفاق، أو تفاوض على الأقل. ونحن نعلم أنها مرتبطة بميلاد الدولة الحديثة كما نشأت في أوروبا بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وقد كانت، منذ نشأتها اعترافا متبادلا، أما الجدران فتُبنى ضد الآخر وعلى الرغم من أنفه. بل إنها قد تُبْنى ضدّ الذات نفسها. هذا ما طبع جدار برلين الذي لم يسقط إلا سنة 1989، والذي لم يُشيَّد لمنع اَلأجانب من الدخول، وإنما لمنع المواطنين من الخروج، فهو لم يكن يهدف إلى حماية الذات، وانما إلى محاصرتها.
الحدود منذ نشأتها اعتراف متبادل، أما الجدران فتُبنى ضد الآخر وعلى الرغم من أنفه. كان الفيلسوف إيمانويل كانط يميز الحدود عن السدود. وهو يرى أن الحدود تدعو إلى الانفتاح، بينما الجدران والسدود علامة على الانغلاق. الحدود هي ما يحدّد الذات ويحدُّها، فيفصلها عن آخرها ويربطها به في الوقت ذاته. إنها "انفتاح على الخارج". فهي لا تفصل ولا تفرّق، وانما تميّز الأطراف كي تربط في ما بينها. فبينما تدلّ إقامة الجدران على عجز الثقافة عن الاعتراف بالآخر والتساكن إلى جنبه، بل ربما على إنكاره وعدم الاعتراف بوجوده، فإن الحدود، على العكس من ذلك، هي ما يسمح بلقاء الآخر. لذلك تعج حركة على الرغم من ثباتها، إنها تُفتح وتُغلق، أما الجدران فصامدة صامتة صماء. إنها "تقف" ضد كل تواصل. إنها تسد الأبواب والنوافذ وكل الفتحات في وجه الآخر، بينما الحدود هي حدود، لأنها بالضبط تعترف بالآخر. إنها لا تقام لـ"محاصرة" الذات وإنما لـ"تعيينها"، وتحديد الآخر dé-terminer.
لاستضافة الآخر، ينبغي أن يكون لي مأوى حُدّدت معالمه، أن يكون لي بيت. حينما تفصلني عن الآخر حدود فهو يعرف أن بإمكاني أن أستضيفه وأفتح له أبواب "بيتي". لكنني أعرف أن ليس من حقي أن أعلن أنني في بيتي حينما أعبر الحدود متنقلا نحو بيتـ"ه"، والا غدوت معمّرا في تلك الحال. ذلك أن الاستعمار لم يكن الا خلطا بين الحدود أو الغاء لها على الأصح. إنه إقرار المستعمر بأنه في بيته أنّى كان البيت. إنه الغاء الآخر ذاتاً ومكاناً.
على هذا النحو، وعلى الرغم مما يميّز الحدود من لبس، ومما قد تنطوي عليه من معان سلبية، هي وحدها الكفيلة بأن تلقّحنا ضدّ الجدران، وخصوصا تلك التي تقام في الأدمغة والعقول. ذلك أن العالم من غير حدود لن يكون إلا صحراء تتشابه حبات رملها، يفقد فيها كل شيء تفرّده، ويغيب فيها الاختلاف لتسود التسوية المسطّحة nivellement والتطابق الموهوم، والتنميط المعمّم.
بهذا المعنى للحدود، وبه وحده، تستعيد التأشيرات وظيفتها كمجرد "إشارة" إلى إمكان عبور الحدود، وليس كصك يؤهل دخول "الفردوس الأوروبي".