لم يكن لـ"مؤتمر ميونخ للأمن" ان يفلت من الجاذبية القسرية التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا. تراجعت القضايا الدولية الأخرى كالمفاوضات النووية الايرانية – الغربية ودور الصين على الساحة العالمية، لتبقى قضية الاستقطاب العالمي التي طرحتها الحرب الأوكرانية بقوة، هي الأولى وربما الاخيرة على جدول أعمال المؤتمر.
هذه السنة لم توجه إدارة المؤتمر دعوات الى روسيا وايران خلافا للأعوام الماضية عندما شكلت العلاقات مع روسيا والمفاوضات النووية الايرانية محور العديد من النقاشات في "مؤتمر ميونخ" الذي افتتح اعماله في 17 فبراير/شباط والذي يشكل اللقاء (العلني على الأقل) الأبرز لمجموعة من سياسيي وخبراء الصف الأول في مجالات الأمن بمعانيه التي تشمل العلاقات بين الدول وامن الممرات التجارية ونشاط اجهزة الاستخبارات المختلفة، والتسلح التقليدي كما النووي وكل ما من شأنه أن يؤثر على الاستقرار في العالم.
"دافوس الدفاع"، على ما يُطلق على المؤتمر، أعلن على لسان رئيسه كريستوف هيوسغن أن الامتناع عن دعوة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يأتي بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا التي تشكل "انقطاعا عن الحضارة"، فيما اوضح مسؤولون آخرون ان ايران استُبعدت عن المؤتمر نتيجة القمع الوحشي الذي تعرض له المحتجون أثناء التظاهرات التي شهدتها المدن الايرانية بعد مقتل الشابة مهسا أميني على أيدي قوات الامن في سبتمبر / ايلول الماضي، ما أطلق تظاهرات تطالب بإسقاط النظام والتخلي عن غطاء الرأس الالزامي للنساء.
روسيا وإيران كانتا من نجوم المرحلة السابقة من العلاقات الدولية التي سادت بعد الحرب الباردة. معروف ان "مؤتمر ميونخ" الذي تأسس في 1963 كان يعنى في المقام الأول بتعزيز جبهة الغرب وحلف شمال الأطلسي في مواجهة الاتحاد السوفياتي. ومع تغير المشهد الدولي بنهاية الحرب الباردة، باتت روسيا ضيفا دائما على المؤتمر.
في عام 2007، شهدت قاعات المؤتمر واحدة من أهم علامات الانعطاف الدولي حيث القى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابا أصبح شهيرا وفيه يدين محاولات الهيمنة الاميركية على العالم. اعتبر المحللون السياسيون الخطاب خروج الشرخ الكبير بين روسيا والغرب الى العلن. وفي 2008 اجتاحت القوات الروسية اجزاء من جورجيا التي كانت ترغب في الانضمام الى "الناتو".
وزراء الخارجية الايرانيون كانوا من الضيوف المرحب بهم ايضا على مدى سنوات وجرت مشاورات معهم في شؤون تمتد من البرنامج النووي الى الوضع في الشرق الاوسط خصوصا بعد صعود تنظيم "داعش" والاضطراب الذي ادخله على خريطة الشرق الاوسط ونشره الارهاب في المنطقة واوروبا.
غياب ممثلي روسيا وايران الرسميين، اتاح حضور "وفود ظل" روسية وايرانية ضمت معارضي موسكو وطهران. ميخائيل خودركوفسكي رجل الاعمال والسجين السياسي السابق بتهم دبرتها له اجهزة الامن الروسية، وكاري كاسباروف لاعب الشطرنج الدولي حملا أصوات معارضي بوتين. أما "وفد الظل" الايراني فضم ولي العهد السابق الامير رضا بهلوي والناشطة والصحافية مسيح علي نجاد والممثلة نزانين بونيادي وبعض اهالي ضحايا الطائرة الاوكرانية التي اسقطها الحرس الثوري الايراني قرب مطار طهران في فبراير / شباط 2020.
وبغض النظر عن الكلمات والمداخلات التي ساهم بها المعارضون الروس والايرانيون، إلا ان مسألتين تختصران مواقف الدول المشاركة عكسها عدد من الصحافيين الذين غطوا اعمال المؤتمر. تتعلق الأولى بمدى صواب استبعاد من باتوا خصوما عن الحضور الى مكان يُفترض ان يوفر مكانا للنقاش المفتوح والصريح بين قوى لا تتشارك في وجهات النظر من القضايا المطروحة. ثمة من عبّر عن اسفه جراء عودة اجواء الحرب الباردة واقتصار المشاركين على لون سياسي واحد (باستثناء الصين طبعا).
النقطة الثانية تتلخص في ان "وفدي الظل" الايراني والروسي لم يعكسا وزنا حقيقيا لمعارضة النظامين في البلدين. بل ان عددا من اعضاء الوفد الاوكراني رفضوا لقاء شخصيات من المعارضة الروسية بحجة ان هؤلاء لم يتخلوا عن مواقفهم القومية المتطرفة المعادية لاستقلال اوكرانيا.