وعلى الرغم من أنّ الجاليات العربية في بريطانيا في الوقت الحالي أضعاف أعدادها قبل عقود إلا أنّ إغلاق بعض المشاريع الثقافية وهجرة بعضها الآخر يطرحان إشكاليات ثقافية وأسئلة عن اللغة والهوية وكيف يمكن تعزيز الحضور الثقافي من دون وجود أو استمرار مثل هذه المشاريع التي حقّقت حضورا لافتا في الغرب وعزّزت تأثير الثقافة العربية أو ساهمت في ترويجها وتسويقها بشكل كبير.
أدوار ريادية
هل نشهد أزمة للثقافة العربية في الغرب؟ هل يعكس ذلك يأسا متفاقما من لا جدوى المشاريع الثقافية في عالم ينحو نحو التسويق والاستهلاك أكثر فأكثر؟ إلى أيّ حدّ تعبّر هذه الأوضاع عن بؤس يُخشى طغيانه شيئا فشيئا في الأوقات اللاحقة؟ هل ارتبطت مشاريع ثقافية عربية بأصحابها بحيث بات من المستحيل فكّ الارتباط إلّا بالإغلاق أو التوقّف؟ هل يمكن القول إنّ الأمر يعود إلى عامل الزمن وما يخلّفه من إرهاق، وكيف أنّ الجيل المؤسس خاض التجربة وحيدا في مواجهة المشقّات والمصاعب ووجد نفسه مرهقا بعد عناء ومقاومة فآثر الإقرار بسطوة الواقع أمام الحلم والمثال والطموح الرومانسيّ بالاستمرار؟
مكتبة "الساقي" تمنح زوارها فرصة للاطلاع على أبرز الإصدارات الحديثة في العالم العربيّ.
مكتبة "الساقي" التي أسسها الزوجان أندره وسلوى كسبار منذ خمسة وأربعين عاما، لم تكن متجرا للكتب فحسب، بل كانت رئة ثقافية عربيّة تنبض في قلب العاصمة الإنجليزية وتمنح زوّارها، من العرب المقيمين والسائحين والدارسين وغير العرب، فرصة للاطلاع على أبرز الإصدارات الحديثة في العالم العربيّ، ومواكبة المشهد الثقافي العربيّ بحيث يشعر المرء بأنّه على صلة وثيقة بحركة النشر العربية، وعلى ما يهمّ العرب أو يتناول تفصيلا من تفاصيلهم التاريخية أو السياسية أو الجغرافية، وكانت تشكّل ملتقى لما يكتب وينشر عربيا ولما يكتب وينشر غربيّا عن العالم العربي كذلك.
كان الدور الذي أدته "الساقي" في حينه رياديا وهو استمرّ في التجدّد مع الزمن، لكن يبدو أنّ المتغيّرات والمستجدّات التي اجتاحت عالم النشر وصناعة الكتاب في العالم لم تستثنِ هذه المكتبة من تأثيراتها، وانعكست عليها بشكل أثقل كاهلها بالتقادم والتراكم، وكانت "التحديات الاقتصادية الصعبة" في مقدمة الضغوط التي دفعتها إلى الإغلاق، بحسب ما أعلن.
أوقفت المكتبة نشاطها المكتبي، لكن "إرثها يستمر"، بحسب تغريدة نشرها حساب "دار الساقي" على تويتر، "مع داري النشر المستقلتين: دار الساقي للنشر العربي في بيروت وSaqi Booksللنشر الإنكليزي في لندن، اللتين تستمران في العمل ونشر الكتب كالمعتاد".
من جهتها، لعبت مجلة "بانيبال" كذلك دورا رياديّا مميّزا وسجّلت اسمها في تاريخ الأدب العربي المترجم كأوّل مجلة متخصّصة بترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية، وعرّفت العالم بإبداعات الأدباء العرب، كما عرّفت الأدباء العرب من مختلف الدول بعضهم ببعض أيضا، عبر نشرها ملفّات متخصّصة تكفّلت التعريف بالمنجز الأدبي العربيّ الحديث ونقله باحترافية إلى الإنجليزية.
أوقفت "بانيبال" نسختها الإنجليزية مختتمة بالعدد الأخير والوداعي رقم 75، خريف 2022،لكنّها ستواصل النشر والصدور باللغة الإسبانية، مما يعني أن المشروع سيكمل ولكن بعيدا عن لندن التي تأسّس فيها وانطلق منها إلى العالم، وسيواصل تعريف العالم بالمنجز الإبداعي العربيّ ولكن بالإسبانية هذه المرّة. كما ستواصل منشورات "بانيبال" أيضا إصدار الكتب بحيث يتحوّل النشاط في جانب منه إلى الكتب بعيدا من ضغط العمل الإعلامي المتواصل الذي يحتاج إلى كثير من الجهود لإتمامه.
مكتبة الساقي المتخصصة بكتب واصدارات الشرق الأوسط في لندن.
لم يخفِ كلّ من الصحافية الإنجليزية مارغريت أوبانك وشريكها الكاتب العراقي صموئيل شمعون، وهما مؤسّسا "بانيبال"، في الأمسية الوداعية التي نظّمتها المجلة في لندن في ١٨ يناير/كانون الثاني 2023، رغبتهما بالتقاعد بعد هذه السنوات من العمل والإجهاد، وأشارا إلى أنّ هناك جهات تواصلت معهما لدعم المجلّة وتمويلها كي لا تتوقّف لكنهما أعلنا أنّهما لا يريدان دعما للاستمرار بقدر ما يبحثان عمّن يحمل عنهما هذا المشروع ويمضي به إلى غده ومستقبله برؤيته.
كتبت مارغريت أوبانك في افتتاحية العدد الأخير: "هل انتهى دور المجلة؟ قطعا لا. فالأدب العربي يحتاج دائما إلى مجلة مثل "بانيبال"، لا بل يحتاج إلى أكثر من "بانيبال". وها نحن نختتم عملنا بالعدد 75 من المجلة، لا لأنها لم تعد ضرورية، بل لأننا، أنا وصموئيل، وبصفتنا العاملين الرئيسيين فيها، لم نعد قادرين على مواصلة العمل، مؤمنين في الوقت نفسه بضرورة ضخّ دماء جديدة من الشباب الذين يتمتعون بالحماسة نفسها التي رافقتنا خلال هذه الرحلة، نحن وجميع من عمل معنا منذ صدور العدد الأول في فبراير/شباط 1998".