تعتبر السياسة النقدية من أهم مقوّمات الاقتصاد في البلدان ذات الاقتصاد الحر. وعندما يجري مجلس الاحتياطي الفيديرالي في الولايات المتحدة تعديلات مثل رفع معدل الفائدة أو خفضه، فإن الأسواق المالية تتفاعل سلبا أو إيجابا، ولذلك آثار غير مباشرة على الاقتصاد. ودأبت البنوك المركزية في العالم خلال السنوات والعقود الأخيرة على توظيف أدوات السياسة النقدية من أجل معالجة الركود الاقتصادي أو التضخم في الأسعار وتمكنت من تحقيق نتائج لا بأس بها. دول الخليج التي تعتمد بشكل كبير وإن متفاوت بين دولة وأخرى، على إيرادات النفط لمواجهة استحقاقات الإنفاق العام الجاري والرأسمالي، استخدمت آليات السياسة النقدية إلى درجة معقولة، وتسترشد البنوك المركزية في مختلف دول الخليج بالسياسة النقدية التي يعتمدها مجلس الاحتياطي الفيديرالي لتعديل سعر الفائدة، رفعا أو خفضا. لا شك في أن دول الخليج تعتمد على تقويم عملاتها الوطنية بموجب سعر صرف الدولار الأميركي ما عدا الكويت التي تعتمد على سلة عملات يمثل الدولار المكوّن الرئيسي فيها وقد يساوي 70 في المئة من وزنها.
تعمل البنوك المركزية الخليجية على تعديل سياساتها النقدية عندما يقرر مجلس الاحتياطي الفيديرالي أي تغيير في سياساته من أجل حماية سعر صرف العملات الوطنية والمحافظة على الأموال مقوّمةً بتلك العملات بدلا من الهروب إلى الدولار. خلال عام 2022 عندما برز التضخم كأهم تحدٍّ اقتصادي، عمد مجلس الاحتياطي الفيديرالي إلى رفع سعر الفوائد مرات عدة خلال العام، ولذلك ارتفع سعر الفائدة من 0,25 في المئة في بداية العام إلى 4,50 في المئة في نهايته. لا شك في أن السياسة النقدية التي اتبعت في الولايات المتحدة الأميركية مكّنت من الحد من ارتفاع معدلات التضخم.
أدت هذه السياسة في طبيعة الحال إلى تراجع في أداء الأسواق المالية في الولايات المتحدة والبلدان الصناعية الرئيسية. عملت البنوك المركزية الخليجية على رفع سعر الفوائد بالمقدار نفسه في كل مرة يرفع مجلس الاحتياطي الفيديرالي هذا السعر في الولايات المتحدة والذي تراوحت نسبه ما بين 0,25 في المئة و0,75 في المئة خلال العام الماضي.
السياسات النقدية في دول الخليج اعتمدت لزمن طويل على فلسفة الاقتصاد الريعي، لا يمكن أن توازي في أهميتها دور السياسات النقدية في البلدان الرأسمالية الكبرى
يزعم عدد من الاقتصاديين أن السياسة النقدية في بلدان الخليج محدودة الأثر في النشاط الاقتصادي نظرا الى دور الدولة المهيمن في الحياة الاقتصادية، وربما يكون التأثير الحقيقي هو في حماية سعر الصرف للعملة الوطنية. في طبيعة الحال تظل السياسة المالية وأدوات الانفاق العام ذات أهمية في هذه البلدان. لكنّ هناك تباينا في تأثير السياسة النقدية بين بلد خليجي وآخر. كما أن التحولات الهيكلية الجارية في السعودية والإمارات تؤكد أهمية دور القطاع المصرفي في تعزيز النشاط الاقتصادي.
يمكن التأكيد أن القطاعات غير النفطية في دول المنطقة تعتمد بدرجة مهمة على التمويل من القطاع المصرفي، لذا فإن أسعار الفائدة تمثل هاجسا لأصحاب الأعمال. خلال العام المنصرم لم يتراجع أداء القطاع العقاري على الرغم من ارتفاع تكاليف التمويل، وأشار تقرير لشركة مشاريع الكويت للاستثمار "Kamco Invest" إلى أن الصفقات العقارية في منطقة الخليج بلغت 143 مليار دولار في عام 2022، مرتفعة عن مستوى عام 2021 حيث كانت بلغت 137 مليار دولار. لا شك في أن هذا الأداء يعكس الطلب المستمر في دول الخليج على العقار، والسكن بشكل خاص، بفعل ارتفاع أعداد العاملين والمستويات المعيشية الجيدة. لكن ذلك لا ينطبق على كل الأسواق الخليجية حيث أورد تقرير "الشال" وهي مؤسسة استشارية وبحثية في الكويت، أن سيولة العقار انخفضت في عام 2022 من 3,9 مليار دينار أو 12,8 مليار دولار (في عام 2021) إلى 3,8 مليار دينار، أو 12,4 مليار دولار، في عام 2022، أي أن الفرق بين عامي 2021 و2022 كان 3 في المئة. يعكس هذا الانخفاض حساسية القطاع العقاري في الكويت لتكلفة التمويل واعتماد العديد من رجال الأعمال على النظام المصرفي، وكذلك الحال بالنسبة إلى العديد من الراغبين في اقتناء أو بناء السكن الخاص.
بيد أن دور السياسة النقدية، على الرغم من أهميته، في دول الخليج التي اعتمدت لزمن طويل على فلسفة الاقتصاد الريعي، لا يمكن أن يوازي أهمية دور السياسة النقدية في البلدان الرأسمالية الرئيسية. هناك يعتمد مجتمع الأعمال على التمويل من النظام المصرفي لتمويل أعمال مؤسساتهم أو منشآتهم وكذلك تمويل التوسع في الأنشطة أو تنويعها. ليس ذلك فقط، فالحكومة نفسها، كما هي حال الحكومة الفيديرالية في الولايات المتحدة، تقترض من النظام المصرفي لتمويل الانفاق الحكومي، الجاري والرأسمالي، لذلك تصبح السياسة النقدية ذات أهمية للقطاعين الخاص والعام، وأي ارتفاع في أسعار الفوائد سيمثل ارتفاعا في تكلفة الأعمال الخاصة والحكومية. غني عن البيان أن الاستهلاك العائلي يعتمد بدرجة كبيرة على التمويل، وكذلك عمليات اقتناء وبناء المساكن الخاصة. قد يختلف الأمر بين الولايات المتحدة واليابان أو كوريا الجنوبية حيث تختلف السلوكيات الاستهلاكية والثقافة وتتباين المواقف تجاه الاقتراض. لكن دول الخليج بدأت في السنوات الأخيرة تعتمد على النظام المصرفي وأصبح القطاع الخاص يرفع من درجة الدين في موازنة الأعمال Leverage وترتفع نسبة الدين إلى قيمة الأصول من قطاع إلى آخر. كما أن الأفراد والأسر الخاصة أخذت تتوسع في الاقتراض وأصبحت القروض الشخصية والمقسطة تمثل أهم مكوّن في التسهيلات المصرفية في مختلف بلدان المنطقة. بلغت قيمة هذه القروض في الكويت 18,4 مليار دينار أو 60 مليار دولار في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2022، بما يعادل 35 في المئة من التسهيلات الإئتمانية الإجمالية بحسب بيانات بنك الكويت المركزي.
من المفيد لبلدان الخليج أن تستفيد من علاقاتها مع صندوق النقد الدولي لوضع خريطة طريق للإصلاح البنيوي.
غني عن البيان أن التسهيلات الائتمانية في الكويت وغيرها من بلدان الخليج يمكن أن ترتفع في قيمتها إذا ما حدث إصلاح اقتصادي وتعزز دور القطاع الخاص وضبط دور الدولة في الحياة الاقتصادية. هناك إمكانات كبيرة لدى البنوك الوطنية في مختلف بلدان الخليج يمكن أن تصبح فائدتها أكبر إذا ما تم إصلاح بنيوي في الاقتصادات الوطنية. وثمة أنشطة عدة لا تزال الدولة تضطلع بها يمكن أن توكل إلى القطاع الخاص الذي يمكن أن يضطلع بالتمويل من النظام المصرفي. عندئذ يصبح دور السياسة النقدية أكثر أهمية ويرتقي ليوازي تلك السياسة النقدية المعتمدة في البلدان المتقدمة والصناعية. أيضا، إن تطوير الكيانات الاقتصادية المملوكة من القطاع الخاص وتعزيز علاقاتها مع المستثمرين الأجانب بما يمكّن من إنجاز الأعمال التي تقوم بها الحكومات في الوقت الراهن مثل الكهرباء وتقطير المياه والاتصالات والنقل الجوي والبري، سيؤدي إلى الاعتماد بشكل مهم على التمويل المصرفي بما يرتقي بأهمية السياسات النقدية. وقد يكون من المفيد لبلدان الخليج أن تستفيد من علاقاتها مع صندوق النقد الدولي لوضع خريطة طريق للإصلاح البنيوي.