ما الذي يجعل الأمر مختلفا حين تُكتب الكلمة ويُحفظ صوتها؟
أتساءل بعدما علّمونا، أنه في البدء كانت الكلمة، معتمدين على الكتب المدوّنة بكل أشكالها، القديمة منها، والمصادر الأولى، ونعلم جميعا أنها كلها من دون استثناء أتت من أصل شفهي، منها كل ما ذكره أرسطو وسقراط وأفلاطون، والمؤرخون القدماء، بالإضافة إلى الكتب السماوية، ولأن الكلمة آتية من الفم لا من القلم. فهل نقلوا الشفهيات مثلما يجب أن تُنقل؟ أي هل نقلوا نتاج الفم كما هو؟ وهل ما كتبوه وأشرفوا عليه هو نتاج اللسان الناطق الفعلي؟ وهل جرى الحفاظ على الكلمات عينها؟
في بحث صغير عن الثقافات الشفاهية، وفي مجتمعات مُلمّة بالقراءة والكتابة، وجدت أن بعض الدول الأفريقية هي الأجدى بحثا اليوم للإجابة عن هذه التساؤلات التي جاورت قراءتي وبحثي حول فرضيات شتى، عن الأساطير والعبادات الأفريقية التي لم تُدوَّن بعد، أو دُوّنت حديثا، والاختلاف كبير بين الديانات المكتوبة التي نعرفها، والثابتة في ممارساتها ومعتقداتها وخصوصا في ما يتعلق بـ"شعيرة" سواء كنا مسلمين أم يهودا أم هندوسا، بوذيين.. مسيحيين.. ملحدين... وبين المعتقدات الأفريقية، وهي في الحقيقة ديانة، إنما ليس بالمفهوم الراهن، فلكل طائفة خصوصية وشعيرة، وهذه ميزة المجتمعات البسيطة، إذ لدى كل مجموعة بعينها معتقدات وممارسات مرتبطة بإقليمها، سواء كانت قبيلة أو مملكة، فكان أمامي مثلا دين "الأشانتي"، وهي قبيلة في جنوب غانا، ودين "كيكويو"، وهي قبيلة كبيرة وقوية في اقتصادها بشمال نيروبي في كينيا.
مما قرأته عن ديانة هاتين القبيلتين، أنها لا تشبه الأديان المكتوبة بتاتا سوى في معاني الموعظة، بعد المقارنة مع الأديان المكتوبة خصوصا في ما يتعلق بممارسة الشعائر والصلوات، لأجد في دين "الأشانتي"، أنك لن تستطيع ممارستها، إن لم تكن منها، بالولادة وبالممارسة، ولن تُفهم هذه الديانة لأنها لم تُكتب قديما، مما يؤكد أن دين "الأشانتي" لا يشبه ما كان عليه قبل مئة عام خلت، لمرونتها وحرية حركة الصلوات بصدق وإيمان، وكأنهما يتمددان، بينما الديانات المكتوبة ومنذ قرون بعيدة، أي مذ كُتبت، تمارس شعائرها بدقة، وجميعنا يعلم، إن لم تكن مكتوبة لكانت تختلف عن اليوم، بالنقل الشفاهي والممارسة الشفاهية.
عودة إلى الأسطورة القديمة التي كانت تشكل نصّا دينيّا لدى أغلب الشعوب، فقد كانت شفاهية وموروثة من جيل إلى جيل من دون معرفة المصدر، وهي مما ورثه الإنسان الحالي من الآباء القدماء، وهو سردنا القصصي لها، وبأسلوب ماتع ومدهش أثناء حكينا القصة أو الأسطورة في أن نجعل منها أجمل حكاية للسامعين، بتصورات ومشاهد مقاربة ومختلفة بزيادة وبنقصان كل حين، فالأسطورة قبل كتابتها لم تكن سوى موعظة وتعاليم غير مباشرة، ليتعظ مَن يسمعها، وتُطرَح على شكل قصة بهدف التمييز بين الخير والشر والصواب والخطأ.
كانت الأسطورة القديمة تشكل نصّا دينيّا لدى أغلب الشعوب، فقد كانت شفاهية وموروثة من جيل إلى جيل من دون معرفة المصدر
بالرجوع إلى المقارنة مع الديانات المكتوبة وغير المكتوبة، نجد في تلك المكتوبة كيف يصحح بعض الناس النص الديني المقروء أثناء الأداء ما إن يخطئ فيه، حتى وإن كان النص سطرا أو جملة، فكل شيء ثابت بعد الكتابة، وعلى القارئ المتعبد أن يكرر الشعائر على نحو حرفي، وعليه بات محفوظا عن ظهر قلب، لتبقى المرونة خاصية المعتقدات والممارسات في الديانات الأفريقية غير المكتوبة، إلى التغيير الضمني، فهو ليس ثابتا، بل مفتوحٌ، إلى ما يُردد من الخارج، فالحقيقة لدى هؤلاء المؤمنين ليست داخلية فحسب، بل خارجية أيضا.
نقفز إلى الأمام قليلا لنطرح سؤالا آخر، ماذا فعلت القراءة والكتابة في الجوانب الأخرى في هذا العالم، من فلسفية وفكرية واقتصادية، وخاصة الاقتصادية لأنها تتعلق بالهبة ونقل الملكية، ومنها نقل الهيمنة، وكذلك الناحية الفكرية التي أطّرت وقُسّمت كتابةَ، ليتفق الجميع على أن الفكرة المطروحة محدودة بالزمان والمكان المكتوبين، مهما كانت سعتها.
لا أعني بهذا أيّ سوء تجاه القراءة والكتابة. فالإنسانية كلها تقدّر اختراع الكتابة وتمجّده، إنما علينا أن نعي الجانب الآخر بعد استخدامها وهيمنتها وهي الموصولة عبر نظام رسمي لقوانين النحو والصرف، لتمثل الأشياء الحقيقية والأحداث التي نستوعبها، لكنها تنعدم للتواصل مع الداخل، فاللغة الشفاهية التقليدية لا إطار لها، مثل الديانات الأفريقية الشفهية الشاسعة في مفاهيمها للإيمان، في حين أن لغة اليوم إجمالا وُضعت في إطار تقليدي عام، من دون جهد في التعبير، وكذلك المستمع لا يجتهد ليستوعب، وكل شيء يدور حول الموروث الجاهز، وأصبح المعنى فقيرا إلا في ما ندر، وهي عكس لغتنا التي أصبحت ضمن ملكية، بمعنى أنها حوزة بشرية خالصة، بينما لغة البيئة الشفاهية الفطرية بلا ملكية لأنها بلا كتابة، في أعماقها معطيات حسيّة وجسدية للإنسان المستوعب صوتَ الطبيعة الحرة من هواء وغناء ومواء، وحتى غضب الأرض، فكانت مشاعر الإنسان الأول سواء مشاعر المتعة أو المعاناة، تخرج بتعبيرات فطرية وبلغة متدفقة، وبإيماءات جسدية، معبرا مثل الكائنات الأخرى الحيّة في وجدانياتها، ومحادثاتها بهمسات الأعماق الصوتية، مع اختلاجات عاكسة، فماذا أعطت الكتابة الموثّقة، وماذا أخذت من أفكار الإنسان المتغيرة؟