ليس لسؤال الهوية أن يملك جوابا واحدا. إن ما باحت لي به صديقة دانماركية تقيم في السعودية منذ ثلاثين عاما، وهي بروفسورة سبعينية متخصصة في اللسانيات الثقافية، فجّر في ذهني تساؤلات وتأملات. قالت بحزم واضح في حوار جاد حول الهوية، إن "الطريق ليس هو الجذر، فنحن لسنا نباتات"، أي أن مصائرنا نحن البشر ليست متجذرة في بقعة واحدة أو مكان واحد.
هذه الرؤية العميقة لطبيعة البشر ساعدتها على العيش بسعادة وانفتاح واندماج متوازن مع الثقافة السعودية، ودفعتها إلى محاولة تأسيس جمعية صداقة سعودية دانماركية غير ربحية، سعيا إلى تجسير العلاقة بين الثقافتين، ولو كان في وسعها لأدخلت العالم كله في هذه الجمعية التي تقوم على مبدأ ضرورة الاختلاف، مع الإقرار باستحالته دون وجود اعتراف متبادل ومشترك.
يذكر الكاتب الياباني نوبو أكي نوتوهارا في كتابه "العرب وجهة نظر يابانية"، أن العالم العربي ينشغل بفكرة النمط الواحد، لذلك يحاول الناس أن يوحدوا ملابسهم وبيوتهم وآراءهم. وتحت هذه الظروف تذوب استقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين.
بعدما كانت الهجرة السبيل الوحيد إلى التواصل الثقافي، نلتقي الآن الثقافات ونتلاقح معها بطرق مختلفة ونحن داخل مكاتبنا أو حتى غرفنا الخاصة
على الرغم من صحة هذه الفرضية التي تتزامن مع صدور الكتاب عام 2003 ، يبدو الأمر مختلفا في عصرنا الحالي. فليس بالضرورة أن نتخطى الحدود الجغرافية لكي نلتقي الآخر أو نتأثر به ونؤثر فيه. فبعدما كانت الهجرة السبيل الوحيد إلى التواصل الثقافي، نلتقي الآن الثقافات ونتلاقح معها بطرق مختلفة ونحن داخل مكاتبنا أو حتى غرفنا الخاصة، في زمن بات فيه وجود الآخر حتميا وتحول "عصر الهجرة" مثلما كان يسمّيه علماء النفس والاجتماع إلى "عصر العولمة" الذي لم يعد وقفا على السفر أميالا طويلة، إنما قدمته إلينا شبكات التواصل العنكبوتية على طبق من ذهب. فليس ثمة مجال لتجنب التفاعل البيني إذ ان علاقتنا بالآخر، أفرادا وجماعات، كما يراها تودوروف، "ليست نتيجة لمصالح الأنا إنما هي سابقة عليها"، ويقول: "معرفة الآخر ليست إحدى السبل لمعرفة الذات بل هي السبيل الوحيد". حتى إن فيلسوف التشاؤم شوبنهاور يعترف هو أيضا بضرورة وجود هذا الآخر فيقول: "لا وجود ممكنا دون آخر".
تفسر مدرسة التحليل النفسي نقص تأكيد حضور الآخر بأنه مركب نقص، فالإنكار والازاحة يعبران بوضوح عن نقص الاعتراف. فالاعتراف يأتي بصورتين، إما اعتراف مطابقة ومحاولة مشابهة الآخر، وإما اعتراف التمايز والاختلاف، وهما مرحلتان متعاقبتان لا تُنجز الأولى منهما دون الثانية. أولا، نعترف بوجود الآخر، ثم نشعر بذاتنا المتفردة.
هذه العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر خصص لها علماء النفس المهتمون بالثقافة مجالا بحثيا خاصا هو علم نفس المثاقفة كفرع من فروع علم النفس العابر للثقافات. فلا يمكن خلق حالة الاعتراف من دون تجربة مثاقفة حقيقية، سواء أكانت من طريق قراءة كتب الآخر أو الارتحال للعيش في بوتقة هذا الآخر بدافع الهجرة أو اللجوء أو العمل أو الدراسة.
لا مجال لتجنب التفاعل البيني إذ أن علاقتنا بالآخر، أفرادا وجماعات "ليست نتيجة لمصالح الأنا إنما هي سابقة عليها
فالمثاقفة التي تقوم على الاعتراف بالإنسان بدلا من إنكاره وإقصائه، هي الطريق لصحة نفسية ومجتمعية. ولا تتحقق سوى بالتوقف أمام سؤال: كيف يتصرف الفرد حين يغير مجتمعه ويعيش ضمن ثقافة جديدة بعيدة عن ثقافته الأصلية؟ وما آثار هذا التغيير في بنيته النفسية؟ وما الاستراتيجيات الهوياتية التي يلجأ إليها من أجل الاندماج مع مجتمعه الجديد؟ هل ينحاز نحو الاندماج الاجتماعي أو التماهي النفسي بالمجتمع المضيف؟ ما العوامل الذاتية والموضوعية والسياقية التي تساهم في اختيار تلك الاستراتيجيات الهوياتية؟
ففتح أبواب الهجرة خيار مطروح للمجتمعات العربية -من بينها السعودية- التي تسعى إلى تعزيز كثافتها السكانية من أجل قوة اقتصادية مضاعفة، لكن ذلك يحتم الإفادة من الدروس السابقة، ومنها التجربة الأميركية التي بدأت بمفهوم "بوتقة الانصهار" نحو عام 1788 للتعبير عن المجتمع الذي تمتزج فيه أنواع مختلفة من الناس، فتصبح الاختلافات فيه أقل أهمية من الوحدة. وهذا المفهوم بدعة أميركية تدّعي الديموقراطية لتخفي دافعها الأول والأساسي نحو الهيمنة وانتهاك كرامة الأقليات القادمين الجدد إلى المجتمع. على النقيض من ذلك، يشير ليفي ستراوس إلى أنه لا وجود لثقافة إِلا في هويّة محّددة تميّزها عن غيرها، فإن انتفى التميّز انتفت الثّقافة وأصبحت لاغية، ممّا يجعل كل حديث سوي عن الثّقافات حديثا عن الهوّيات الثقافيّة. مع هذا، لا يتجاهل ستراوس ما سماه بـ"القاعدة الإنسانية المشتركة" التي هي جوهر الاعتراف والاندماج الثقافي المأمول، والتي تكفل المساواة وحق العيش الكريم المشترك.