الغيوم تتكئ على قمم الجبال، إلا أن الصُدوع بائنة. يتحدّث ماركو ميسيرولي بإحباط عن ذوبان الجليد في جبال الألب، الذي لم يعد يخفى على أحد. يقول وهو يلوّح بيديه كعادة الإيطاليين: "أمضيتُ أسبوعا هناك، بعد العطلة الطويلة على شواطئ فيرسيليا، لاستلهام بعض المشاهد في رواية لا أعرف متى سأكتبها، إلا أنها حتما ستكون مجازا لكارثة معلنة لم نفعل حتى الآن إلا القليل لإيقافها"، يقصد بذلك طبعاً التغير المناخي وآثاره البيئية المدمرة.
عندما تلَمّس السؤال الأول على شفتي، ارتأى هذه المرة، ربّما تيمنا بالكاتب الكبير ماريو فارغاس يوسّا، الذي أجرى لقاء معه نُشر في صحيفة "الكورييري ديللا سيرا" قبل أشهر خلت، أن يتكلم على مدينته، ريميني، محجّ السياح الألمان خلال موسم الصيف، مقارنا صخبها بالفكرة الأساسية التي تصاحب الإنسان عندما يحاول الانتقال من مرحلة إلى أخرى. أي – تدخّلت بروية - من مرحلة تعلّم الكتابة إلى مرحلة تعليمها كما حدث معك في "مدرسة هولدن للكتابة الإبداعية"، حيث تدرّس الآن جنبا إلى جنب مع مدرّسك السابق، الكاتب الكبير أليسّاندرو باريكّو، صاحب "عازف البيانو في المحيط"، الكتاب الذي تحول إلى فيلم على يد المخرج جوزيبي تورناتوري.
يجيب: "لا أعرف. كان ذلك رهانا كلّفني الكثير من الجهد والعمل المتواصل ما بين القراءة والكتابة، لكن مما لا شك فيه أنني مهدت الطريق للعديد من الشبان إلى عالم السرد من خلال مدرسة هولدن".
تجربة التدريس
ما الذي يظلّ عالقا في ذهنك من تجربة تدريس الكتابة الإبداعية؟
يستهويني التدريس، ربما لأن والدتي كانت معلمة مدرسة ابتدائية، لذلك لطالما عشت هذه الأجواء. منذ أن بدأت بجدية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، منحني كل فصل وكل تلميذ شيئا ما. كان هناك بعض المواهب الاستثنائية التي تتفجّر إبداعا. في بعض الأحيان، كل من بدأ ارتياد الفصل وانتهى منه، كان يصبح شخصا آخر أيضا على المستوى الإنساني والشخصي، ويمر بتطورات مهمة جدا تترافق مع الكتابة.
تجد نفسك أمام شخص تتعرف فيه إلى إمكانات هائلة، لا تتوقف عند نقطة معينة، بل تُحدث ثورة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان. عندما يحدث أمر كهذا، أي عندما يستولي الشغف على الكيان برمته، كن على ثقة بأن الطالب الذي لربما يبدأ بمستوى أقل في القدرات الأدبية يمكن أن يصبح الأفضل على الإطلاق، ويكون له شأن كبير في المستقبل. لهذا السبب لديَّ نهج متزن للغاية تجاه الطلاب وأنتظر حتى آخر لحظة ريثما يكشفون عن أنفسهم.
الوضع السياسي المتأزم في إيطاليا يرغمنا على التوقف لبضع دقائق عند أهم المحطات التي واجهت البشرية في حربين دمويتين وفي حروب أخرى لا تزال تستنزف الكثير من الشعوب، ليست آخرها الحرب في أوكرانيا. يسأل ماركو عن سورية، ويتكلم على أهمية أدب المهاجرين في إيطاليا وفي الدول الأوربية الأخرى، ودوره. يقول لي: "يبدو أنكم تعيدون تجارب كتّابنا ما بعد الحرب العالمية الثانية من مثل جيزوالدو بوفالينو، إليو فيتّوريني، تشيزارِي بافيزِي وإيتالو كالفينو، روّاد الواقعية الإيطالية الجديدة". تتباين الآراء بيننا، وبلا قصد، تعيدنا ابنته ذات العامين مارغريتا (مثل اسم بطلة روايته "إخلاص") إلى أجواء الرواية.