لم يبق شيء سوى أنقاض من ما أنجزه رفيق الحريري (1944- 2005) في حقبة "إعادة البناء والإعمار" (1992- 2004) التي أعقبت ما ترتب على الحروب الأهلية في لبنان (1975- 1990) من دمار الحروب.
وفي الذكرى الـ18 لاغتياله في 14 فبراير/شباط 2005، حين إمعان النظر المتأمّل في مصير تلك الحقبة ورجلها، لا بد من أن يلمح خلف هذا الركام اللبناني الراهن (الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، الإفلاس السياسي، خراب مؤسسات الدولة والبنية التحتية، وفرار الأجيال الشابة من الخواء والعتمة الماحقتين في الديار اللبنانية) طيف رفيق الحريري، سيرته وصوره الكثيرة المتعددة والمتحولة.
وخلف هذه الصور تلحّ أسئلة كثيرة: ما السياسة وما العمل العام، حين يؤدّيان إلى القتل؟ هل لا تنفك السياسة من القتل والحرب والموت؟ وهل من سياسة واجتماع سياسي في ظل القتل والاغتيال والتهديد بالقتل؟ وما هي السياسة في مجتمعات الحرب والاغتيال السياسي؟ وما صلة صُوَر رفيق الحريري وسيرته ومسيرته السياسية بما فعله اللبنانيون بعد مصرعه؟ وكيف يمكن النظر إلى صُوَر الحريري وسيرته في مرآة اغتياله؟
في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة نستعيد اليوم، في الذكرى الـ18 للاغتيال، شهادات ترصد سيرته وصوره المتحوّلة في مرآة تلك الانتفاضة اللبنانية المغدورة بين 14 فبراير/شباط و14 مارس/ آذار 2005، علّ هذه الشهادات تفيد في النظر إلى أحوال لبنان المظلمة الراهنة. وقد شارك في هذه الشهادات:
- النائب السابق، ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
- سيمون كرم، سفير لبنان السابق في الولايات المتحدة الأميركية.
- داود الصايغ، المستشار السابق للرئيس رفيق الحريري.
- زهير حطب، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية.
- فرنك مرمييه، الباحث والمستعرب الفرنسي.
وليد جنبلاط: سيقتلونك أو يقتلونني.. قال قبل إعدامه بأسبوعين
يقول جنبلاط "بين 14 فبراير و14 مارس 2005، صنع اللبنانيون صورة جديدة لهم ولبلدهم، كما صنعوا صورة وسيرة جديدتين لرفيق الحريري بعد مقتله. والسبب في ذلك أن حادثة الاغتيال والسنوات الأربع التي سبقتها كشفت عن صورة جديدة للحريري، وخصوصًا بعد فوزنا معًا في الانتخابات النيابية سنة 2000. وهو الفوز الذي جوبه بقرار سوري - لبناني في عهد إميل لحود الرئاسي الذي، منذ العام 1998، أراد إهانة رفيق الحريري وتحقيره وعرقلة إنجازاته كرئيس للحكومة. والأرجح أن قرار إعدامه السياسي بدأ يلوحُ بعد فوز الانتخابي سنة 2000، قبل القرار الذي جرى تنفيذه بإعدامه جسديًا في 14 شباط/ فبراير 2005".
"ورغم أنه أُرغم عن ترك الحكم في بدايات عهد إميل لحود، كان مرتاحًا إلى مغادرته وتفرّغه للتحضير إلى خوض الانتخابات سنة 2000. وهذه كانت حاله أيضًا في العام 2004، عندما ترك الحكم كي يحضّر لانتخابات 2005. وهنا ربما أخطأ الحريري في التقدير في اطمئنانه لسلامته، وخصوصًا بعد التحذير الأميركي - الفرنسي للنظام السوري عقب محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، رغم أنني لم أشاركه الرأي في الاطمئنان إلى النظام السوري. والأرجح أن قرار إعدام الحريري جسديًا اتُّخذ قبل زيارة وزير الخارجية السورية وليد المعلم بيروت آنذاك، والتي كانت غايتها تطمينية، قبل أسبوعين من تنفيذ عملية الاغتيال. ولا أزال أذكر قوله الشهير لي آنذاك: "إما سيقتلونك وإما سيقتلونني". لكن قوله ذاك كان مصدره حدس مفاجئ، آني وعابر، وفي غمرة انشغاله المتفائل في التحضير للانتخابات النيابية التي لم تحصل إلا بعد اغتياله. ولا أزال أفكّر ما الذي دفعه إلى قول تلك العبارة التي صدرت، على الأرجح، عن شعور داخلي يصعب جلاؤه وسبر أغواره لدى رجل مثله كان يتميّز بالصبر والصمت ويأنف المهاترات السياسية".
يتابع "تحمّل رفيق الحريري ما يصعب تحمّله إلا بصبر صامت جلود. وربما ساعده في ذلك إيمانه الشخصي، ويقينه بقدرته وقدرة لبنان واللبنانيين على الإنجاز، وخصوصًا في العام 2000 وبعده. ففي تلك السّنة توفّي حافظ الأسد، وتحرّر جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وصدر بيان المطارنة الموارنة الذي يدعو إلى خروج القوات السورية من لبنان. وهنا لا مهرب من الاعتراف بأننا، رفيق الحريري وأنا، كنا ضمن نظام الوصاية السورية على لبنان، والتي ما عادت قابلة للاحتمال بعدما ورث بشار الأسد والده رئيسا على سوريا، وأمسى تدخّله مباشرا وأقوى من السابق في الشؤون اللبنانية. وعبثا حاول رفيق الحريري التخفيف منه على نحو هادئ".