الزلزال حصل في شمال غرب سوريا وجنوب شرق تركيا. هنا وهناك، حصد أرواح الآلاف. قضى على أحلام مئات الآلاف. دمر بيوت الملايين وخيامهم. الركام طمر الكثير من الآهات. الصمت لم يسعف بقايا الأنين.
المعاناة في تركيا وسوريا واحدة وهائلة. أوسع من الكلمات، وأقسى من المشاعر. لكن هناك فرقا كبيرا، اذا اتسعت الجروح والشقوق للحديث عن طيف وفرق، بين هذا الشمال وذاك الجنوب. الفرق يكمن في العنوان. في تركيا هناك عنوان، في سوريا لا عنوان للمعاناة. كيف؟
مذ تحركت الصفائح تحت البيوت وتهدمت السقوف فوق الأهالي، كان هناك عنوان واحد في أنقرة. حديث عن فساد ومشاكل في رخص الاعمار وتراخٍ في المساءلة وتحليلات عن تأثيرات الزلزال في الانتخابات المقبلة. "حزب العدالة والتنمية" الذي نبت مع الرئيس رجب طيب اردوغان، من ركام زلزال نهاية القرن، قد يكون مصيره السياسي محكوما بركام هذا الزلزال. قيل الكثير وسيقال الكثير قبل الانتخابات المقبلة في مايو/ايار اذا حصلت في موعدها. لكن، كان هناك مسؤولون في السياسية والعسكر والاقتصاد والخارجية ومؤسسات المجتمع المدني، عملوا ما في وسعهم، بعضهم وفق اجندات سياسية ومتناقضة، للتعاطي مع الزلزال، في أبعاده الانسانية والسياسية والاقتصادية والدولية.
كان يفترض ان توحد المعاناة السوريين. لكن، ما حصل ان الزلزال أظهر خلافاتهم
المشهد كان مختلفا في سوريا. بداية، لا بد من قليل من التوصيف. الزلزال ضرب شمال غرب سوريا. هذه المنطقة، تضم نحوا من اربعة ملايين شخص. بعضهم كان نزح من ريف ادلب ومناطق سورية اخرى، الى الحدود التركية باعتبارها "آمنة". منهم من بنى منزلا، ومنهم من عاش في خيمة. في الضفة الاخرى، هناك ايضا لاجئون. وهو التعبير الاخر، الذي يوصف به السوريون الذين هُجِّروا من بيوتهم. الجامع بين السوريين على جانبي الحدود، هو المعاناة. من كان قريبا من خط الحدود، لم يكن محظوظا، سواء أكان في سوريا ام في تركيا. نازحون ولاجئون هربوا من الخطر الاول، فدهمهم الزلزال في نومهم. دهم عائلات بأكملها، فأبيدت عن بكرة ابيها. كثير من الجثامين، لا عناوين لها. لم تجد طريقها الى المقابر.
توسيعا في المعاناة، هذا الزلزال الذي ضرب مناطق "معارضة" او "منفيين"، ضرب ايضا مناطق موالية في غرب البلاد ووسطها، ووصلت ارتدادات الضربة الى جنوب البلاد.
كان يفترض ان توحد المعاناة السوريين. لكن ما حصل ان الزلزال أظهر خلافاتهم. اهل مناطق "الموالاة" تريثوا في تعاطفهم. وأهل مناطق "المعارضة" ركزوا على جروحهم. وعندما حاول اهالي شمال شرق سوريا اسعاف الجرحى والأيتام في شمال غربها، ظهر الفيتو التركي. انقرة، لم توافق بسهولة وفوراً على وصول الاغاثات من "مناطق كردية" الى مناطق نفوذها.
أول من زار حلب المكسورة، لم يكن مسوؤلا آتيا من دمشق، بل كان اسماعيل قاآني قائد "فيلق القدس" في "الحرس" الايراني القادم من طهران
معلوم ان المسؤولين السوريين تأخروا كثيرا في ادراك ما حصل في مناطقهم وامصارهم. تأخروا في الخروج من دمشق الى زيارتها. شرق حلب، إحدى هذه المناطق. اول من زار حلب "العاصمة الاقتصادية" لسوريا، لم يكن مسوؤلا آتيا من دمشق ولا امميا آتيا من نيويورك او جنيف، بل كان ايرانيا. انه اسماعيل قاآني قائد "فيلق القدس" في "الحرس" الايراني. زار وتجول وتصور و"أغاث" وأعلن.
ما هي الرسالة الايرانية من هذه الزيارة؟ معلوم ان هناك توترا ضمنيا بين "الحليفتين"، دمشق وطهران. الاخيرة تريد ثمنا لـ"انقاذ النظام" خلال العقد الاخير، عبر الحصول على "تنازلات سيادية" في الاقتصاد والسياسية. و الثانية، أي دمشق، متمسكة بالتحالف مع طهران، لكنها تبحث عن خيارات، في وقت باتت الغارات الاسرائيلية على مطار دمشق لـ"ضرب شحنات ايرانية"، امرا محرجا.
كارثة الزلزال، وفرت فرصة لإيران التي تؤمن بأن "كل محنة منحة". ارادت القول ان "حلب محافظة ايرانية". زيارة كهذه في زمن الحرب قبل سنوات، شيء. الآن هي شيء آخر. المشكلة فيها، انها جاءت في لحظة كانت دول عربية تريد استعجال التطبيع مع دمشق بعد الزلزال، واستغلال الازمة الانسانية لخطوات سياسية، ذلك ان الكثير من القادة العرب اتصلوا بالرئيس السوري بشار الاسد للتعاطف والبحث عن صفحة جديدة في القاموس السوري-العربي. لكن الزيارة الايرانية للمدينة، جاءت لتذكيرهم بواقع الحال، فتريثت دول في التطبيع وضغطت اخرى على "المطبّعين".
الخوف، ان يكون الزلزال غوصا عميقا في الجروح السورية. فيه كثير من المعاناة والخراب وقليل من "الزلازل السياسية"
فقدان العنوان ليس موجودا في هذا وحسب، بل هناك المساعدات الدولية. في تركيا، هناك عنوان وطرق يحددها هذا العنوان لمسارات المساعدات. لكن في سوريا، العناوين كثيرة والمسارات وعرة. دمشق وموسكو تريدان ان تأتي كل المساعدات عبر العاصمة السورية والحكومة السورية. الدول الغربية، تريد ان تأتي المساعدات من خلال معابر الحدود مع تركيا، وتريد توسيع هذه المعابر وزيادة عددها. عليه، جرت مقايضات: توسيع المساعدات الى مناطق المعارضة من المعابر التركية، مقابل توسيع المساعدات الى دمشق ومنها الى المناطق "الخارجة عن سيطرة الدولة".
الدول الغربية وبعض الدول العربية، لا تريد الاعتراف بحكومة دمشق. ولا تريد التعامل مع ادلب وفصائلها او تعريض خبرائها ومسؤوليها الى "اخطار امنية". دمشق لا تريد التعامل مع ادلب باعتبارها جزءا من سوريا. وانقرة تمنع "الادارة الكردية" شرق نهر الفرات من التعاطف مع مناطق غرب الفرات.
ايضا، جرت مزايدات. كل طرف سوري او حليف خارجي له، يحمّل في البيانات وفي اروقة مجلس الامن، الطرف الآخر مسؤولية تأخر وصول المساعدات.
امام هذا التعقيد كله، ليس مفاجئا، ان يسمى الزلزال بـ"الزلزال التركي"، وليس غريبا أن يُرفع العلم التركي في العالم او على منصات التواصل الاجتماعي، للتعاطف مع الثكالى والجرحى والضحايا في تركيا، ذلك ان في سوريا رايات كثيرة واعلاما كثيرة وعناوين كثيرة تفضي الى مرجعيات متناحرة ومعاناة متشابكة. لكن ليس فيها عنوان واحد للعزاء والحداد الوطني. ايضا، في المهجر لا عنوان واحدا لتقديم التعازي.
الخوف، ان يكون الزلزال غوصا عميقا في الجروح السورية. فيه كثير من المعاناة والخراب وقليل من "الزلازل السياسية"... في انتظار كارثة اخرى.