"تاريخ مؤلم" من الزلازل في شمال غربي سورياhttps://www.majalla.com/node/286181/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%85%D8%A4%D9%84%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%84%D8%A7%D8%B2%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7
كم من الوقت سيمرّ قبل أن تنتهي معاناة النازحين السوريين
دمار في جندريس في شمال سوريا في 9 فبراير 2023 (أ ف ب)
"تاريخ مؤلم" من الزلازل في شمال غربي سوريا
ديانا دارك
آخر تحديث
إذا تصفّحتَ قائمة أخطر الزلازل في العالم، فستجد أن عددا كبيرا منها ضرب شمال سوريا تاريخيا، وخاصة تلك البقعة بين حلب وساحل البحر المتوسط. وتقع المنطقة التي يتكون منها جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا عند التقاء ثلاث صفائح تكتونية، هي الصفائح العربية والأناضولية والأفريقية، يتدافع بعضها في اتجاه بعض، فيزيد الضغط والاحتكاك اللذان يتسبّبان بالزلازل.
تشاء الظروف لسوء الحظّ أن تكون هذه المنطقة اليوم موطنا لنحو ثلاثة ملايين سوري، بعضهم نزحوا إليها، بسبب معارضتهم لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد في العاصمة دمشق، وبعض آخر نتيجة مصادفة جغرافية بحتة. على امتداد سنوات الانتفاضة التي بدأت في مارس/آذار 2011، قبل أن تتحوّل إلى حرب، نزح الكثير من السوريين مرات عدة داخل سوريا. ووصلت أعداد كبيرة من حلب إثر قصف الطيران الروسي والسوري تلك المدينة في ديسمبر/كانون الأول 2016.
لم تكن سوريا التاريخية تشبه "سوريا الأسد" الراهنة المقطّعة أوصالها حاليا، بل كانت تمتدّ من جبال طوروس في الشمال إلى صحراء سيناء في الجنوب، وبالتالي كانت تشمل أنطاكيا القديمة، التي تقع اليوم في ولاية هاتاي التركية الحالية، وهي مدينة ذات أهمية كبيرة في التاريخ المبكّر للمسيحية.
"زئير هادر، تبعته هزّة هائلة، فقُلِبت الأرض قلبا وطارت الأبنية في الهواء"
المؤرخ الروماني كاسيوس ديو
ضرب أول زلزال مسجل أنطاكيا سنة 115 ميلادية، وذُكر وقتذاك أن المدينة سُوِّيت بالأرض تماما، وقضى 260 ألف شخص في ذاك الزلزال الرهيب، بمن فيهم الأمبراطور الروماني تراجان، الذي كان يمضي فصل الشتاء إثر حملة عسكرية واصيب بالزلزال ومات لاحقاً. وقدّر العلماء قوّة ذلك الزلزال 7.5 درجة.
ولا تزال بين أيدينا شهادة حية من المؤرخ الروماني كاسيوس ديو عن اللحظة التي زلزلت الأرض فيها: "أولا، جاءنا ... زئير هادر، تبعته هزّة هائلة، فقُلِبت الأرض قلبا وطارت الأبنية في الهواء، وحُمِل بعضها عاليا ليهوي بعد ذلك ويتحطّم، في حين رُمِي بعضها الآخر عشوائيا وانقلب، كما لو كان محمولا على موجات البحر العاتية، وانتشر الحطام على نطاق واسع حتى في الريف المفتوح".
كان الأساقفة الأوائل في العديد من المدن الأوروبية في الأصل من أبناء أنطاكيا، تعلموا تقاليدها المسيحية الغنية، وسافروا غربا. من هؤلاء أبوليناريس، شفيع رافينا في إيطاليا. لكن الرهبنة السورية المبكّرة ازدهرت أيضا في تلال المناطق القريبة من أنطاكيا، وخاصة في جبال إدلب الكلسية. وذاع صيت الرهبان هناك إلى درجة أن الحجاج الأوروبيين كانوا يأتون ليروا بأعينهم "الرهبان بمثل هذه القداسة التي يصعب وصفها"، كما نجد في كتابات سيدة إسبانية من القرن الرابع تُدعى إيثريا.
بعدما جرى تبني المسيحية رسميا كدين جديد للأمبراطورية الرومانية عام 313، أمكن بناء الكنائس والأديرة علانية، ونشأ أكبر تجمع لها في سفوح التلال جنوب حلب وغربها، حيث أمكن تحديد نحو 800 تجمع بشري كانت (قرى وبلدات) تفاخر في ما بينها بوجود نحو 2000 كنيسة مذهلة تعود إلى القرون الرابع والخامس والسادس. من المفارقات، أن هذه الكنائس أُدرِجت في قائمة التراث العالمي لليونسكو في يونيو/حزيران 2011، وهو وضع من شأنه أن يحميها نظريا من الضرر، لكنه في الواقع لم يحقق شيئا سوى ربما تنبيه العالم إلى تراث مهدد. إنها تمثّل إرثا رائعا في العمارة المسيحية المبكرة، وهي حقل التجارب الذي بلغ ذروته في نهاية المطاف في آيا صوفيا في القسطنطينية.
في القرن السادس، عندما وصلت الحياة الرهبانية السورية إلى عصرها الذهبي، ضرب زلزالان هائلان المنطقة. كان الأول في أنطاكيا في 19 مايو/ أيار 526، وأدّى إلى مقتل 250 ألف شخص وكان بقوة 7.0 درجة، كما وثقها يوحنا الأفسسي، والثاني في حلب في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 533، الذي قتل 130 ألفا.
مع ذلك، نجت التجمعات السكانية واستمرت في الازدهار بفضل إنتاجها من النبيذ وزيت الزيتون، ولم تتقهقر إلا عندما تغيرت طرق التجارة في أعقاب الحروب ضد الساسانيين الفرس في القرن السابع الميلادي.
في القرن الثاني عشر، ضرب المنطقة ما لا يقل عن ثلاثة زلازل ضخمة. أصاب الأول منها مدينة حلب في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1138 ووثقه المؤرخ العربي ابن الأثير، وقال إن الهزّات استمرت ليال عدة: "وحين اشتدت الهزّات على الناس هناك، تركوا بيوتهم ومضوا إلى الأرياف. وفي ليلة واحدة أحصوا ثمانين هزة". وذكرت المصادر أن أكثر من 300 ألف شخص قضوا نحبهم في ذلك الزلزال.
أما الزلزال الكبير الثاني فكان في عام 1157 عندما قسمت المنطقة بين ممالك صليبية وقادة مسلمين محليين، وضرب مدينة حماة. وفي هذا الزلزال المدمّر فقد الشاعر السوري أسامة بن منقذ - الذي وردت شذارت من سيرته الذاتية في كتاب أمين معلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب"- عائلته بالكامل، فلم ينجُ أحد سواه لأنه كان أُرسل إلى دمشق في مهمة. وفي ذلك كتب: "وما اقتصرت حوادث الزمان على خراب الديار دون هلاك السكان، بل كان هلاكهم أجمع، كارتداد الطرف أو أسرع".
"وما اقتصرت حوادث الزمان على خراب الديار دون هلاك السكان، بل كان هلاكهم أجمع، كارتداد الطرف أو أسرع"
اسامة بن منقذ
ويتردد أصداء مثل هذه المشاعر بشكل مريب في مأساة الزلزال الحالي، باستثناء أن زلزال 1157 وقع في 12 أغسطس/ آب، اي في ذروة الصيف، على عكس الشروط الجوية شبه القطبية في هذا الشتاء القاسي المتجمد اليوم.
كم من الوقت سيمرّ قبل أن تنتهي معاناة النازحين السوريين الذين أصبحوا بلا مأوى مرة أخرى، وإن كانت هذه المرة بسبب كارثة طبيعية وليست واحدة من صنع الإنسان؟ متى سيستطيعون أن يعيشوا حياة طبيعية مع وسائل الراحة الأساسية من الماء الجاري والطعام والمأوى؟ لا أحد يعرف الإجابة. ولكن أقل ما يمكننا فعله هو إبراز محنتهم وإدراك أهمية الإرث الثقافي المتجذر الذي هم ورثته.
* ديانا دارك، كاتبة بريطانية زارت سوريا والمناطق الشمالية مرات عدة. خاص بـ "المجلة"