في أعقاب كارثة الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا، وأمام المشاهد المؤلمة التي تصوّر حجم الفاجعة ومداها، ارتفعت أصوات كثيرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، مطالبة بتجاوز الخلافات والعداوات السياسية، وتوحيد الجهود لإنقاذ من لا يزالون عالقين تحت الأنقاض ومساعدة آلاف الجرحى والمشردين، خصوصاً في الجانب السوري، حيث يكاد يكون حضور الدولة السورية منعدما، وحيث تلقت الفئات الأشدّ فقرا الضربة الأقسى، ومنهم اللاجئون الذين كانوا في الأصل يعانون أوضاعا مأسوية، ما كان الزلزال إلا ليبدو استكمالا لها، كأنّ ما لم تدمره، ومن لم تقتله، براميل النظام المتفجّرة والآلة العسكرية برمتها التي حكمت وتحكم تلك المناطق، جاء الزلزال، ليكمل قتله وتدميره.
هذه الدعوات هي وليدة الصدمة الأولى، والتعاطف الإنساني الفطري، ورد الفعل الطبيعي أمام عشرات مقاطع الفيديو الموجعة والأخبار الواردة من المناطق المنكوبة، بصرف النظر عن التباين في خلفيات مطلقيها ومواقفهم، بل بصرف النظر أيضا عن بعض مساعي التوظيف السياسي للكارثة التي تكتنف بعضها. لكنها تظلّ دعوات حالمة، رومانسية، وقاصرة عن الاعتراف بالواقع، أو متوهّمة أن هذا الواقع قابل للتغيير بفعل هول المأساة وحده، في حين أن الحقيقة المرّة تفيد بأن مآسي الزلزال ليست فصلا فاصلا بالنسبة إلى الواقعين تحت أهوالها، والمصابين بمصيبتها، بقدر ما هي فصل جديد يضاف إلى فصول الفجيعة الماضية والآلام القائمة منذ سنوات.
لعل العالم لم ينس بعد أزمة كوفيد 19 التي بدا، للحظة عابرة متوهّمة، أنها وحّدت العالم، وأيقظته على المصائر المشتركة وعلى ضرورة التضامن والتكافل الإنسانيين في وجه غضبة أخرى من غضبات "الطبيعة"، اتخذت تلك المرة شكل فيروس خارج عن السيطرة، ليغرق العالم سريعا في الحسابات السياسية وليستيقظ أولئك الذين وقفوا ينشدون ويعزفون الموسيقى على السطوح والشرفات من أجل الأمل والبقاء، على واقع مغاير تحكمه صراعات الحكومات ومصالح الشركات الكبرى وأطماعها.
قبل وقوع الزلزال الأخير المدمّر، كان الشعور العام، العالمي والعربي معا، قد استقرّ على أن ما شهدته سوريا خلال عقد من الزمن، أشبه بالكارثة الطبيعية. ففي نهاية المطاف لم يتغير الواقع إلى واقع أفضل، ولم يسقط الديكتاتور، ولا أصبحت سوريا ديموقراطية، ولم ينل الضحايا الحدّ الأدنى من العدالة. وأمام الأعداد الفلكية لأولئك الضحايا من قتلى ومشردين ومعتقلين، بدا أن ما يعانيه السوريون لا يعدو كونه إرادة إلهية، وتمّ التسليم الصامت أحيانا والمعلن في أحايين أخرى، بالحال التي استقرت عليها سوريا اليوم: بلد ممزق، مقسم بين نظام ومعارضات وإرادات ومصالح دولية معقدة ومتشابكة.