الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، تطرح سؤالا ملُحا عن العلاقة بين السياسات الداخلية والخارجية لكل دولة تطمح الى أداء أدوار تفوق قدراتها وتحاول فيها إخضاع الواقع الى تصوراتها الايديولوجية عن ذاتها. سؤال يتناول المدى الذي يجوز للدول هذه ان تذهب اليه في السعي الى تحقيق مشاريعها وكلفة المشاريع هذه التي غالبا ما تتاخم الأحلام أو تتخطاها.
ليست التظاهرات المناهضة للنظام الحاكم جديدة في إيران. فقد عبّرت فئات مختلفة من المجتمع عن اعتراضها على نهج الحكومة الايرانية في لحظات مختلفة منذ 1979، تاريخ وصول رجال الدين الى السلطة. واتخذ الاعتراض أشكالا عدة امتدت من الانتفاضة المسلحة التي نفذتها الاحزاب الكردية في الشهور الاولى لتولي الخميني الحكم مرورا بالصدامات العنيفة بين “مجاهدي خلق” وأجهزة النظام الوليد في اوائل الثمانينات وصولا الى تظاهرات الطلاب في أواخر تسعينات القرن الماضي والتظاهرات التي راحت تتكرر مع تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي وتحولت الى تعبير عن الغضب العارم بعد مقتل الشابة مهسا اميني على ايدي “شرطة الاخلاق” في سبتمبر الماضي.
المفارقة الايرانية تتجلى في أن اتساع الاعتراض الشعبي يسير يدا بيد مع اختراقات تحققها طهران في محيطها القريب وتسفر عن تعزيز النفوذ والهيمنة الايرانيين على دول قد هزمها الحكم الايراني عسكريا (ولو جزئيا) كالعراق أو دول كان من غير المتصور ان تتحول الى قاعدة للتمدد الايراني بعد عقود من ممارسة سياسة خارجية مستقلة مثل سوريا. المفترض كان ان ينعكس التمدد الخارجي ازدهارا، بيد أن الانتصار في ارض خراب على غرار البلاد التي تمدد “محور المقاومة” اليها، جلب المزيد من تصلب النظام والجبروت الأمني- العسكري وهو ما لا يلمسه المواطن الإيراني العادي الذي مسّته العقوبات الدولية.
المشروع الامبراطوري الايراني الذي اتخذ أسماء مختلفة منذ ثلاثة وأربعين عاما، سواء “تصدير الثورة” أو “حماية المراقد والمقامات المقدسة”، يتركز أساسا على الدروس المستخلصة من الحرب الايرانية –العراقية (1980 - 1988) والتي شكلت “صدمة الولادة” للنظام الايراني وصاغت رؤيته الى العالم الذي لم يقبل الثورة ومُثلها وقيمها، بغض النظر عن اعجاب فئات رأت فيها نوعا جديدا من الصراع ضد الامبريالية والغرب، فيما لم تمتلك الثورة الايرانية لا الوسائل ولا القوى ولا حتى الايديولوجية الجذابة، لتغيير العالم، على غرار ما فعلت الثورة الفرنسية على سبيل المثال.
فالحرب مع عراق صدام حسين أدت الى حسم الصراع داخل النظام لمصلحة التيار الذي سيسمى لاحقا بـ “التيار المحافظ” ومثّله رئيس الجمهورية في تلك المرحلة علي خامنئي وهو “المرشد” والولي الفقيه الحالي.
الخارج، إذا، هو مصدر التهديد الوجودي الذي يترصد الثورة ونظامها. هكذا كان اثناء الحرب ضد العراق. ثم قدم الخارج في انهيار الاتحاد السوفياتي نموذجا لما يشكله انهيار نظام شديد المركزية محكوم بإيديولوجيا جامدة. أما الداخل فجرى اخضاعه.
وإذا كان الغزو الأميركي للعراق قد شكل الفرصة الأكبر ليقفز المشروع الايراني قفزته الكبرى بالدخول فاعلا رئيسا في السياسة والامن والاقتصاد في العراق، فإن لبنان هو البلد العربي الأول الذي شهد التطبيق العملي للسياسات الايرانية الخارجية منذ 1982.
لبنان
مع ظهور نُذر هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية اثناء الاجتياح الاسرائيلي في 1982، بدأت تحضيرات إطلاق “الثورة الاسلامية في لبنان”. وعاش البلد الصغير كل الاختبارات التي فرضتها الحاجات الايرانية من خطف للرهائن الغربيين الى تدمير مقري المارينز والمظليين الفرنسيين الى خوض الحرب ضد حركة “أمل” الطرف القوي الثاني داخل الطائفة الشيعية. وقد شكل الشيعة اللبنانيون منذ أواسط ستينات القرن الماضي موئل فكرة التغيير السياسي اللبناني من خلال انخراط اقسام كبيرة منها في الاحزاب اليسارية والقومية ثم في حركة “أمل” و“حزب الله”.
كانت رقصة معقدة بين النظام السوري الذي يريد الامساك بكل مفاصل لبنان وبين الايرانيين الذين يرون في موطئ قدم لهم على الحدود اللبنانية- الفلسطينية ميزة استراتيجية ودعائية لا تقدر بثمن وتضفي مصداقية على شعاراتهم عن الزحف الى القدس وتحريرها “على ايدي المؤمنين”. تخلل الرقصة تلك دماء غزيرة ودمار عميم دفع ثمنها اللبنانيون. وانتهت الى توافق بين دمشق وطهران على “تقسيم عمل” للحلفاء المحليين يتولى فيه “حزب الله” قتال اسرائيل وخدمة المشروع الايراني محتفظا بسلاحه بعد نهاية الحرب الاهلية، بناء على قراءة ملتوية لاتفاق الطائف. في حين تشرف حركة “أمل” على توزيع الغنائم التي تدرها الدولة اللبنانية على الموالين لسوريا ضمن الطائفة الشيعية.
كان رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري من ضحايا التحول في السياسة السورية باتجاه ترسيخ التحالف مع ايران على حساب العلاقات السورية مع الدول العربية، بعد وصول بشار الأسد الى الحكم خلفا لوالده. توريط لبنان في حرب يوليو/ تموز 2006 جاء في هذا السياق.
اما ذروة الاستخدام الاداتي للبنان في السياسة الايرانية فكانت في دفع “حزب الله” الالاف من مسلحيه للقتال الى جانب نظام الاسد بعد الثورة ضده.
اما فوائد ايران من وجودهــــــــا في لبنان، فتـــشمل الـــقدرة على الضـــغط على اسرائيل في الملف النووي، واســـــــــتخدام لبنان للالتفاف على العقــــوبات الاقتصادية عليها. إضافة الى ان “حزب الله” يشكل بذاته انتصارا معنويا للاســــــــــتراتيجية الايرانية لارغامه اســـــــرائيل على الانســـــحاب من الجنوب المحتل في 2000 وهو ما وظفتــــــــه طهـــــران في العديد من البلدان.
ويــــــــــجوز القول ان “حزب الله” اللبناني من ابرز “النجاحات” الاستراتيجية الايرانية بفضل قوته العــــسكرية وكفاءاته الامنية والســـــياسية التي جعلت منه الحـــــــاكم الفعلي للبـــنان منذ اتفــــــاق الدوحة في 2008 على اقل تقدير.
سوريا
لم يتأخر حافظ الاسد عن ابداء تأييده للثورة الايرانية منذ ايامها الاولى. اسباب التأييد هذا ترجع الى العلاقات السيئة التي سادت بين ايران وبين اكثرية الدول العربية وتحالف طهران المتين مع اسرائيل وتشكيلها تهديدا دائما لدول الخليج العربية بقوتها العسكرية الضخمة التي كانت تغذيها الولايات المتحدة. ورأى الأسد من جهة ثانية، ضغطا جديدا على خصمه اللدود، حزب البعث الحاكم في العراق الذي كان قد توصل قبل سنوات قليلة الى اتفاق مع ايران في الجزائر لتسوية النزاع على شط العرب بعد التوافق بين بغداد وطهران على القضاء على الحركة الكردية المسلحة. يضاف الى ذلك البعد الطائفي المضمر في سياسات الاسد الأب والذي كان اكثر حذرا من إعلانها صراحة، حيث ستشكل ايران الشيعية المعادية لاسرائيل رافعة قوية لدعم دور الأقلية العلوية في حكم سوريا.
هي فرصة متعددة الوجوه بالنسبة الى حاكم دمشق اذا. وكان الأسد والزعيم الليبي معمر القذافي القائدين العربيين الوحيدين اللذين ساندا الجانب الايراني في الحرب ضد العراق وقدما له السلاح والخدمات اللوجستية والاستخبارية. ولم ينكسر التحالف بين دمشق وطهران منذ ذلك الحين.