الديبلوماسية الدولية على سرير المرض

الديبلوماسية الدولية على سرير المرض

يُعد العام 2022 الأكثر اختلافًا منذ عقود طويلة. فقد تحدث فيه السلاح، واشتد السباق عليه، فيما أُصيبت الديبلوماسية الدولية بشلل أو كادت. عجزُ هذه الديبلوماسية من أبرز سمات العام وأخطرها. لم تكن الديبلوماسية الدولية بخيرٍ تام في العقود السابقة. ومع ذلك لم يخلُ عام من بضع إنجازات على صعيد حل نزاعات أو تحقيق سلام هنا أو هناك.

لكن الأمر اختلف في 2022. الديبلوماسية، التي لم تكن بخير، اشتد عليها المرض فانتشرت أعراضه في معظم مناطق العالم. نشبت حرب مدمرة في شرق أوروبا استمرت حتى نهاية العام ودخلت العام الجديد، فيما تزداد نذرُ حربٍ كبيرة ثانية في شرق آسيا. ويخَّيمُ شبحُ حربٍ ثالثة في أجواء الشرق الأوسط، ويزداد التوتر في معظم مناطق العالم، ويبلغ سباق التسلح ذروةً غير مسبوقة، بما في ذلك التسلح النووي الذي توقع معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري" في يونيو/ حزيران الماضي أن يعود للارتفاع بعد 35 عامًا من التراجع.

حربُ كبيرة اندلعت وثانية في الطريق:

كانت الأزمة الروسية- الغربية، التي تصاعدت بسرعة منذ أكتوبر/تشرين الاول 2021، أول الأعراض التي أظهرت اشتداد مرض الديبلوماسية الدولية. ظلت هذه الديبلوماسية عاجزةً عن وقف صعودٍ بدا سريعًا إلى هاوية حربٍ كان ممكنًا ألاَّ تبقى محصورةً في أوكرانيا. أخذت نذُر تلك الحرب تقترب مع مطلع العام الجاري، ومرت الأيام واحدًا وراء الآخر فيما الطرفان الروسي, والغربي (الولايات المتحدة والحلف الأطلسي) غير مستعدين للتفاوض.

ربما كان سقف المطالب الروسية أعلى مما يمكن قبوله كبداية للمفاوضات حسب بعض الدوائر الغربية. لكن أن تبدأ برفع السقف لهو أمرُ معتاد. وغالبًا ما يُخفضُ هذا السقف خلال المفاوضات وصولاً إلى نقطة التقاء. لكن أيًا من الطرفين لم يكن مستعدًا للتفاوض. فكانت الحرب التي داهمت الاقتصاد العالمي قبل أن يفيق من آثار الجائحة.

الديبلوماسية، التي لم تكن بخير، اشتد عليها المرض فانتشرت أعراضه في معظم مناطق العالم. نشبت حرب مدمرة في شرق أوروبا استمرت حتى نهاية العام ودخلت العام الجديد، فيما تزداد نذرُ حربٍ كبيرة ثانية في شرق آسيا

كما أدى اشتداد مرض الديبلوماسية إلى إغفال أن العالم لا يتحمل حربين كبيرتين في آن معًا، فواصل الأميركيون والصينيون السباق الذي تصاعد في العامين الأخيرين على النفوذ في شرق آسيا ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي بوجه عام. وبعد أن كان الخلاف على تايوان مُجّمدا، دبت الحركة فيه بفعل إصرار مسؤولة أميركية كبيرة على القيام بزيارة رسمية إلى تايبيه في أول أغسطس/آب، فردت بكين بتعبئة عسكرية واسعة وتدريبات استمرت حتى نهاية العام وتضمنت محاكاةً لعملية غزو الجزيرة وضمها.


ولم يكن في إمكان الديبلوماسية مغادرة سرير المرض، والتحرك لإنهاء التصعيد المتبادل الذي أبقى شبح حربٍ محتملة في شرق آسيا مُخَّيمًا في سماء العالم حتى نهاية العام، وإن لم يكن نشوبها وشيكا.


حربان صغيرتان تستعصيان على الهدنة:


وليس بعيدًا عن حربين إحداهما مشتعلة والثانية قابلة للاشتعال في أي وقت، تجددت المواجهات المسلحة بين أرمينيا وأذربيجان، وكذلك بين قيرغزستان وطاجكستان. فقد انهارت في منتصف سبتمبر/ ايلول الهدنة التي عُقدت عقب حرب خريف 2020 بين أذربيجان وأرمينيا بسبب الخلاف الحدودي على إقليم ناغورنو كاراباخ والتدخلات الإقليمية التي تزيد النار اشتعالاً، وتحول دون إنهاء صراع تاريخي لا يكاد يهدأ حتى يشتعل. وتوقفت الاشتباكات، كالمعتاد، بدون التوصل إلى اتفاق سلام يحول دون انهيار جديد للهدنة.


كما انهار في الوقت نفسه تقريبًا الاتفاق الذي عُقد في أبريل/ نيسان 2021 لوقف إطلاق النار بين قيرغزستان وطاجكستان، وتجددت الاشتباكات بين قوات البلدين بسبب خلاف حدودي أيضًا. ولا يخلو من دلالة أيضًا توسع الاشتباكات خلال قمة شنغهاي التي حضرها رئيسا البلدين في 15-16 سبتمبر، ثم توقفت بدون اتفاق سلام ولم تستطع دول المجموعة أن تفعل أكثر من تشكيل لجنة تقصي حقائق لمتابعة الملف. 

فشل في معالجة صراعات متفاوتة الحدة:

لم يكن الإخفاق في التوصل إلى اتفاق جديد، أو مُجدَّد، بشأن البرنامج النووي الإيراني، والجمود المخيم على مفاوضات فيينا بعد أكثر من عام ونصف العام على إطلاقها في أبريل/ نيسان 2021، الفشل الوحيد للديبلوماسية الدولية في معالجة صراعات تتفاوت في مستويات حدتها والأخطار المترتبة عليها. طغى الاهتمام بالاحتجاجات الواسعة التي اندلعت في إيران في منتصف سبتمبر واستمرت لعدة أسابيع، على المفاوضات التي وصلت إلى طريق مسدود. 


ورغم أن كلاً من تركيا وقبرص واليونان أعضاء في الحلف الأطلسي، ظل النزاع بشأن حدود المياه الإقليمية لكل منها، والتنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط, مستمرًا بل ازدادت حدته في ضوء تبادل الاتهامات منذ يوليو/ تموز الماضي بين أنقرة وأثينا بالقيام بانتهاكات بحرية وجوية، وحشد قوات على الحدود بين البلدين.

وظل ملف النزاع بين كل من مصر والسودان، وإثيوبيا، بشأن سد النهضة مُجمدًا، ولم يتسن استئناف المفاوضات التي توقفت منذ نهاية 2020. ولم تلق دعوة مصر في يناير/كانون الثاني الماضي إلى عقد جلسة بين الأطراف الثلاثة استجابةً لدى أديس أبابا الى ان ظهرت بوادر تقدم بين الجانبين في منتصف يناير 2023. كما مرت مطالبة مصر مجلس الأمن الدولي في آخر يوليو بتحمل مسؤولياته إزاء استمرار إثيوبيا في ملء السد بشكل أحادي مرور الكرام.


جمود الديبلوماسية الجماعية:


من الطبيعي، حين يكون المرض قابلاً للانتشار في أي جسم، أن يمتد إلى مساحات متزايدة. ولهذا صارت الديبلوماسية الجماعية مُجمدَّة بدورها منذ أوائل العام الجاري، فيما عدا الاجتماعات الدورية للأمم المتحدة ومنظماتها، والتي صارت شكلية في الأغلب الأعم.


وكان أهم ما امتد إليه المرض اتصالات بدأت مع جائحة "كوفيد 19 " حول حوكمة الصحة العامة. وأنتجت مبادرة "الصحة للجميع وبالجميع" التي تمخضت في 2021 عن خطة "نهج الصحة الواحدة 2022-2026".


كما تأثر التعاون الدولي في مواجهة تغير المناخ بوقف الحوار بين الصين والولايات المتحدة، المسؤولتين معًا عن أكثر من 40% من الانبعاثات الكربونية، إثر تصاعد النزاع بشأن تايوان. وأثرت القطيعة بين الدولتين بقوة على الجهود الدولية، وجعلت مهمة مؤتمر (كوب 27) أكثر صعوبة.


وهكذا، لا يكاد جزء في جسد الكوكب يخلو من أثرٍ لمرض الديبلوماسية الدولية، الذي يصعب تقدير الوقت اللازم للشفاء منه.  

font change