الرياض كما رأيت

الرياض كما رأيت

في زيارة إلى الرياض، تسنت لي فرصة التعرف على مفاهيم الرياض القديمة ومعانيها. بدأت الرحلة من ساحة حصن (المصمك)، الذي في أصله المسمك من السُمك، لكنها اللهجة وتطورها، وهكذا من الساحة ينكشف السوق التراثي الغني المقابل للحصن بتاريخه الفريد منذ معركة فتح الرياض، الذي رٌمّم وأصبح اليوم متحفا يروي قصصا غدت تاريخا ومنهجا. هذا السوق يحمل اسم سوق الزل أيّ السجاد، أو سوق المشلح أي "البشت" العباءة العربية التي يرتديها أهل نجد وجزيرة العرب.

ما إن تدخل السوق حتى لا ترغب في الخروج منه، لما فيه من مزايا المتاحف المفتوحة، متميز لا شبيه له في الرياض منذ نشأته في مطلع القرن العشرين، فلا توجد بضاعة في هذا السوق إلا وتُعنى بالتراث من بخور وعطور وملابس وسجاد وعقال وشماغ، وكل ما تم تسليعه من خلال فكرة صناعة السياحة الثقافية، ثمة بائعو الحرف اليدوية، يصنعون أمامك ما يدهشك وأنت تتجول، من مسابح اليد بأحجارها القديمة، إلى العقال وهو يُصنع من خيوط صوف الماعز والقطن والحرير، إلى أغلب البضائع المباعة تجدها تُصنع باليد أمام دكة المحلات العتيقة بأبوابها الخشبية، يصنعون كل ما هو آت من التراث بأدوات تستخدم إلى اليوم، وقد بقيت في إطار التراث والسياحة والتاريخ والأصالة والثقافة، حتى ذهب المعنى العولمي بكل سلاسة إلى الإنتاج بديناميكية اقتصادية تعتمد على رأس المال، ورغم أن العلم والتاريخ يسيران بجانب بعضهما عبر تدوين الأول للثاني ليحفظ الأجيال ماضيهم ويطلعوا عليه، ويصبحوا أكثر اهتماما بأوطانهم، إلا أن بعض الأسواق القديمة في بعض مناطق الخليج والدول العربية تبيع البضائع الأجنبية، ليبقى السوق القديم مجرد بناء تقليدي، بينما البضاعة فتحمل هويات دخيلة على سوق تليد.

ويهمني أن أشير إلى الأمر الجاذب في تلك الساحة المفتوحة قرب المصمك والسوق، وهو رؤية منثورات لا حصر لها لأدوات تُعنى بالطهي والنجارة والبناء رُتبت على مفرش واسع تظهر للبيع، ليستفيد من كل هذا الهواة والمغرمين بالعتيق والنوادر من أدوات كانت متاحة قبل عقود، ولم تعد اليوم كذلك، ولأن الهواة يجمعون، أصبح لكل منهم متحفا في البيت، إما غرفة مخصصة، أو مكانا يعرض حاجياته بشكل لافت بين أثاثه في واجهات وأركان. الملفت في السوق القديم أيضا الحراج، أو كما يقول البعض المزاد الذي كان قائما على الدِلال، دلال القهوة العتيقة، بألوان نحاسية وذهبية، هذا المزاد المستقل كان يزايد عليه بائع المزاد العلني، وكم كان موهوبا وهو يعدد ويصف بصوت مسموع في السوق كله، سمات الدلال التي بين يديه، مع ذكر السعر وبعض الأمثال القصيرة أو بيت شعر، وصوت ينغم ويلحن أمام الجلاس من المهتمين والتجار.

هذا الموطن التاريخي بحضارته اللغوية وتقاليده التي كانت يوما قوانين، وعاداته التي شكلت سلوكا لشعبٍ عربي أصيل كان محكوما بصبر المناخ وحب الشعر، نرى اليوم دهشة السائحين فيه، بعد أن أصبح الاستثمار مرآة للسلف

هذه الأجواء التي لا تشبه سوى نفسها في أرض نجد، كانت موطنا لبني تميم وأسد وجديس وطيء... وقد عاشت تلك القبائل هنا في الألف الأول قبل الميلاد، ومعظمها يصل في نسبه إلى إبراهيم الخليل، وأكثرها مر على ديانات عديدة من الوثنية إلى اليهودية والحنيفية.... ليتشكل هذا الإقليم النجدي بثروة بصرية غير محدودة تربعت فوق رمال وهضاب وجبال ووديان في الرياض وحائل وقصيم...
هذا الموطن التاريخي بحضارته اللغوية وتقاليده التي كانت يوما قوانين، وعاداته التي شكلت سلوكا لشعبٍ عربي أصيل كان محكوما بصبر المناخ وحب الشعر، نرى اليوم دهشة السائحين فيه، بعد أن أصبح الاستثمار مرآة للسلف. سائحون يأتون مع أسئلتهم المختلفة، فكل مدينة حديثة في هذا العالم، تسكن قلبها مدينة قديمة عريقة، ولا طعم للأسفار دون المرور عليها، والعبور على الموروث، ورصد المعنى النقي عن النشأة الأولى.
كان المزاد أيضا على مجلات بأعدادها الأولى، وصحف عربية قديمة مغلفة، مرت عليها عقود طويلة، بعناوين الحرب الكبرى شغلت قلوب الناس حينها، واليوم أكل عليها الدهر وشرب، دون إنكار أنها وثيقة مهما كانت نيّة الخبر. كان أرشيفا وسط ساحة مكشوفة على الضوء، ينادى من أجلها اطلاعا ومزادا.
ولأن نجد أنجبت نوابغ اللغة والشعر والجمال والخيال منذ القدم، فكان الشاعر "أعشى قيس"، صاحب المعلقة الخالدة التي تحمل اسمه "معلقة الأعشى"، الذي ولد في الرياض عام 570 ميلادي أي قبل الإسلام الذي أدركه ولم يسلم، لتبقى قريته منفوحة اليمامة، وهي قرية حضرية في وادي حنيفة، حيث داره وقبره، ولأن منفوحة اليوم حيّ من أحياء الرياض، أطلقت حكومة المملكة على أحد شوارع نجد، اسم شارع الأعشى تخليدا له ولمعلقته التي بدأ مطلعها بوداعية مؤثرة لعاشق يودع حبيبته هريرة وهي المدللة عند قومها: 
ودع هريرة إن الركب مرتحل، 
وهل تطيق وداعا أيها الرجل. 

وكم للأعشى من فضل لغوي في معلقته الطويلة هذه، حيث يذكر مفردات نجدية لم تعد تستخدم اليوم، مثل الوجي: وهو الشخص الذي لا ينتحل شيئا في قدميه، ونشر: أي الرائحة الطيبة، والدجن: أي المطر الذي يكون غزيرا ويهبط على الأرض بكثرة.  
رحلتي الغنية إلى الرياض شملت الحديثة منها أيضا، حين رأيت ملامح المعمار الجديد في أبراج إسمنتية، وصعودي قمة برج الفيصلية، لِأُبْصِرَ الرياض في شخصيتين، الرياض الأفقية من بيوت عربية بأشجار وأحياء ومكتبات وخدمات، وشخصية الرياض الحديثة بأبراجها واقتصادها ومدخراتها وخزائنها.
وأخيرا تبقى نجد كما أتى في لسان العرب لابن منظور، واصفا موقعها في الدنيا: 
"حَدٍّ من نجد وحد من تهامة فليس كله من هذه ولا من هذه. ونجدٌ: اسم خاص
لما دون الحجاز مما يَلي العِراق".

font change