من هنا، حظي اختيار شخصيّة مثل المغنية أريثا فرنكلين في المرتبة الأولى بارتياح كبير. لا يعني ذلك عدم التشكيك في الخلفيات، وافتراض أسباب قد لا تتعلق بالغناء نفسه وراء هذا التكريس، وذلك لأنه جاء في لحظة يسود فيها منطق الاعتذار عن تاريخ الظلم والاضطهاد الذي عانى منه المتحدرون من أصول إفريقيّة الذين تنتمي إليهم فرانكلين، في موازاة تكريس بنى تمييز أكثر خبثا.
من شأن هذا النزوع أن يخرج تاريخ الاضطهاد كله من التداول ويحلّ مكانه تلك "الروح الجديدة" التي سمحت في لحظات محددة بانتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، وكذلك اختيار فرانكلين أفضل مغنية في كل العصور.
ويأتي اختيار تسع شخصيات أفريقية في صدارة الترتيب ليفتح الباب أمام صفقة تبادل مخادع تؤدي دور تفكيك قضايا التمييز وليس العكس .النجومية التي تمنح لهم الآن والتي تصر الجهة المانحة على تعميمها على امتداد تاريخ الغناء، تطمح إلى أن تكون شاملة ومطلقة، وبذلك تفترض نوعا من العفو العام عن كلّ جرائم التاريخ، وفي المقابل تطلق خطابا يقول إن المغنين السود أصبحوا مقياسا للغناء وباتوا متربعين على عرشه ويحظون بأعلى مكانة فيه، ولذا لا مجال للحديث بعد الآن عما جرى وما يجري وما سيجري . النجوميّة المطلقة تلغي كلّ شيء.
احتلت المغنية بيلي هوليداي المرتبة الرابعة في التصنيف، وكانت قد أطلقت في عام 1939 أغنية "فاكهة غريبة" التي تتحدث عن شنق السود خارج القانون والتي تقول كلماتها:
على أشجار الجنوب فاكهة غريبة
دم يلون الأوراق ودم منسدل فوق الجذور
أجساد سوداء تتأرجح مع نسيم الجنوب
فاكهة غريبة تتدلى من أشجار الحور
كانت هذه الأغنية ممنوعة لفترة طويلة، وكانت المغنية تُعتقل بمجرد غنائها، لكنها أصبحت الآن مع مغنيتها في دائرة تكريس النجوميّة التي لا تعني سوى أنها باتت بلا أثر. السلطات نفسها التي كانت تعتقلها والتي قتلتها بقسوة، مثلما يذكر فيلم يروي سيرتها عُرض قبل فترة على منصة نتفليكس، لا تزال في الواجهة، وهي تقتلها الآن من جديد بتمجيد غير موصول بسياقات حقوقيّة وقانونيّة وثقافية جديّة، يجمّدها في تمثال لامع منحوت من حجر صامت.
الجديد هو تطوير آليات الإقصاء بتحويل ممثلي الفئات التي يقع عليها هذا الإقصاء، إلى نجوم، وإدماجهم في السوق، وهكذا يصبحون صورا غير ناطقة ويكفّون عن الغناء إلى الأبد. باتت الأغنية جزءا من مشهد الصخب والضوء ولم تعد بذلك قادرة على الدفاع عن خصوصيتها ومعناها، ولم يعد إحياؤها يفتح نقاشا حول الظلم، بل باتت جزءا من الأرشيف والذاكرة، بمعنى أنها تستعاد وتستعمل للدلالة على أن موضوعها قد مات وانقضى.
لقد استبدلت الأشجار التي كانت الجثث تتدلى منها، بركبة الشرطي التي تضغط على عنق جورج فلويد حتى الموت، وبعصاه التي تضرب بلا هوادة.
تفترض سيولة السوق التعاطف مع القضايا من دون الدفع في اتجاه تغييرها، ويجب على من يريد طرح القضايا أن يدرجها في إطار منطق السوق نفسه، وهو منطق يعمد ببساطة إلى تحويلها سلعة وتحويل أصحابها وضحاياها مستهلكين للخطاب الذي يصاغ من خلالهم، والذي تعتمد آليته على إدامة الوضع إلى الأبد.
أم كلثوم التي "هزتها" بيونسيه
حصرت القائمة علاقتها بالغناء العربي كله في أم كلثوم التي احتلت المرتبة 61 في الترتيب، مسبوقة بكيث بوش ومتبوعة بجورج مايكل. استجرّ الأمر ردود فعل متفاوتة بين من رأى أن ورود اسمها وحدها بوصفها ممثلة للغناء العربي يعني نوعا من المكانة الخاصة، في حين علّق حفيد شقيقها معتبرا أنها تستحق المكانة الأولى على مر العصور.
المجلة نفسها اعتبرت في تقديمها للقائمة، أنه لا مثيل لأم كلثوم في الغرب، واستشهدت ببوب ديلان الذي اعتبرها عظيمة، وبروبرت بلانت الذي قال "عندما استمعت إليها للمرة الأولى، إلى الطريقة التي ترقص فيها بصوتها عبر السلّم الموسيقي لتصل إلى جملة لحنيّة ما، لم أتخيل حتى إنه يمكنني الغناء، لقد كان أمرا هائلا، كأن أحدهم أحدث حفرة في حائط فهمي للصوت البشري".
ذكرت المجلة توظيف بيونسيه لأغنية "إنت عمري" لأم كلثوم على أنّه دليل على المكانة المرموقة التي تتمتع بها، لكنها منحت المغنيّة الشابة المرتبة رقم 8 في اللائحة بتقدم أكثر من خمسين مركزا على أم كلثوم، مما يدفع إلى الاستنتاج أن تلك "العظمة" كما تفهمها المجلة، ما هي إلا نوع من مدح الذات التي تقررها وليست تصنيفا فعليا لموقع أم كلثوم في الغناء العربي أو تحديدا لموقع متميز لها في خريطة الغناء العالمي كما تفهمه.
على العكس من ذلك، يبدو الأمر إقفالا للنظر إلى المنطقة العربيّة وغنائها عند لحظة وفاة أم كلثوم عام 1975، وبيع العرب هذا التصنيف بوصفه علامة على خروجهم من تاريخ الغناء، وكأنّه وقف عند تلك اللحظة، مما يجعل من ذكر أم كلثوم تأبينا وليس احتفاء.