الجسر

الجسر

الجسر، كما يعرّفه كثيرٌ من القواميس، هو ما يربط ضفّتَين، فيشكل وسيلة اتصال. يمتدّ هذا الاتّصال من المعنى الحسي المباشر، إلى المعاني الرمزية التي تدعو جسرا كل ما يربط ما بين الشعوب والثقافات واللغات، ساعيا إلى أن يقرّب بينها ليسمح بالوصل والتلاقي. لكن، يثير شيئا من الاستغراب كون بعض المعاجم العربية (على ذكر المعاجم، ينبغي ألا ننسى أنها جسور)، بدل أن تقتصر على هذا الوجه الاتصالي للجسر، تذهب عكس ذلك، فتحدّده على أنه «حدّ فاصل بين أرضين».

لا شكّ في أن استغرابنا سيزداد حدّة عندما نتبيّن أنّ هذا الوجه الانفصالي في تحديد الجسر لا يقف عند المعنى اللّغوي للّفظ، وإنّما يجد دعامته في الفكر الفلسفي، عند واحد من أكبر الفلاسفة المعاصرين.

الجسر، رمز الوصل واللقاء، هو الذي يجعلنا نتبيّن انفصال أحدهما عن الآخر

يذهب مارتين هايدغر إلى أن الجسر، بما يسمح به من قدرة على العبور، لا يكتفي بالربط بين ضفتين، وإنما «يأتي بالضفتين، بما هما كذلك، يأتي بهما إلى الظهور». صحيح أنّ الضفتين كانتا موجودتين حين لم يكن هناك جسر. لكن الجسر، رمز الوصل واللقاء، هو الذي يجعلنا نتبيّن انفصالهما، أحدهما عن الآخر. يقول: «الجسر يوصل الضفتين إحداهما بالأخرى، ومن ثمّ يميّز بينهما. بفضل الجسر تنفصل الضفة الثانية لتنتصب في مواجهة الأولى». تتمايز الضفتان إحداهما عن الأخرى بفضل الربط بينهما.

يوصل الجسر فضاءين متباعدين من غير أن يوحّد بينهما. بتعبير جيل دولوز، لنقل إن الجسر مولّد الاختلافات. ما به يتلاقى المخالفان ويثبتان ذاتيهما بفضل الاختلافات. فأن يَعبُر المرء جسرا، كما كتب جان بيار فرنان، هو «أن يتخطّى حدودا، ويغادر الفضاء الحميميّ المألوف، حيث يكون المرء في مكانه، كي يلج أفقا مخالفا، وفضاء غريبا، مجهولا، حيث يكون معرّضا لمواجهة الغير، وللانكشاف من غير مكان يخصّه».

أن يَعبُر المرء جسرا هو أن يتخطّى حدودا، ويغادر الفضاء الحميميّ المألوف، حيث يكون المرء في مكانه، كي يلج أفقا مخالفا، وفضاء غريبا، مجهولا

إنّها قطبية الفضاء البشريّ المكوّن من داخل وخارج. عبَّر عنهما الإغريق القدماء على شكل زوج من الآلهة المتحدّين-المتعارضين: هما هيستيا وهيرميس. يقول فرنان: «هيستيا إلهة المأوى والبيت الدافئ. إنّها تشكّل فضاء مألوفا فتغرسه في قلب الأعماق، وتجعله داخلا قارّا محدودا ثابتا. بقدر ما تتمتع به هيستيا من استقرار وعمارة، وبقدر انغلاقها على البشر والثّروات التي تحميها وتصونها، يتمتع هيرميس بترحّل وتسكّع وتجوال عبر العالم، فهو يتنقل من دون توقّف بين مكان وآخر، غير عابئ بالحدود والسّياجات والأبواب التي يقتحمها على هواه.

لكل ثقافة نصيبها من هيستيا وحظّها من هيرميس. لكي تكون الثقافة هي ذاتَها، ينبغي لها أن تعبُر الجسور، ينبغي لها أن ترتمي في حضن ما هو غريب. غير أن هذا الارتماء قد يتخذ أشكالا متعددة تبدأ من مجرد محاولة التعرّف إلى الآخر حتى الانسلاخ عن كل خصوصية. ولكي لا نكتفي بالبقاء داخل ثقافتنا، لنعبر الجسر نحو ثقافة أخرى عريقة هي الصينية. ولنتأمل ما تخلص إليه الأستاذة آن شينغ (في درسها الافتتاحي بالكوليج دو فرانس تحت عنوان: «الصين، هل هي تفكر؟»)

لكي تكون الثقافة هي ذاتَها، ينبغي لها أن تعبُر الجسور، ينبغي لها أن ترتمي في حضن ما هو غريب

من محاولة تفنيد الرأي الذي يذهب إلى أنّ الفكر الصيني هو أساسا «حكمة قديمة» ظلت منغلقة على نفسها وبمنجى عمّا يهز الثقافة العالمية. الغريب أن هذه الفكرة هي التي نجدها حتى عند الدارسين الغربيين أنفسهم، بل لعلهم هم من رسّخوها. تنتفي إذا تلك الرؤية الاختزالية التي تجعل الفكر الصيني «الآخر المطلق»، فتعتبر أن التوجه نحوه قد يمكن أن يكون طريقا إلى التخلص من هيمنة نزعة التمركز حول الذات الأوروبية، وبديلا جديدا كل الجدة من «الثقافة الغربية». إن هذه الرؤية الاختزالية ترى أنّ الثقافة الصينية، من شدة ما فكرت قديما، لم يعد في إمكانها أن تفكر. ما تحاول شينغ أن تثبته بالضبط هو أن الصين فكّرت ولا تزال تفكّر، فهي «لم تعد تقبل أن تظل سلبية، مثل صورة جامدة تسلّم نفسها للدرس، وإنّما غدت محاورا فعّالا يساهم في جدالاتنا، وذلك لسبب وحيد، هو أنها انكبّت، منذ نحو من ثلاثين سنة، على تحصيل كل ما جاءت به العلوم الإنسانية الغربية، كما انكبّت على إعادة تملك تراثها الفكري والثقافي، انطلاقا مما يخزّنه ماضيها».

لا شكّ في أننا قد نجد أنفسنا في هذه الصورة التي يرسمها هذا الدرس عن الصين في علاقتها بتراثها، محاولا خلخلة الصورة التي ترسخت عنها، فضلا عن كونه يقدم إلينا أيضا، جوابا عن الاعتراض الذي يبديه بعضنا إزاء انفتاحنا على الفكر الغربي، وإهمالنا لما قد تحبل به ثقافات معاصرة أخرى من فكر، قد يغنينا عن كل نظرة أحادية، بل يحررنا من كل تبعية لكل تمركز حول ذات ثقافية بعينها.

لنُعطِ في الختام الكلمة لـ شينغ: «إنني أفضل الحركة، الذهاب والإياب، والتجوال من ضفة إلى أخرى. مقابل ما يشبه الحوار، أفضّل النقاشات المتعددة الطرف. عوض الغيرية التي تجمّد المواجهة، أبحث عن الاختلافات التي تدرك الأشياء في ألوان الحياة وحركاتها».

غنيٌّ عن التأكيد أن هذه الاختلافات «التي تدرك الأشياء في ألوان الحياة وحركاتها»، لن تتبلور، كما رأينا، إلا بمدّ الجسور.

font change