لم يشهد عالم الاستثمار والتمويل سابقا شركة أسسها شاب في العشرينات من عمره، وبلغت قيمتها 32 مليار دولار في سرعة فلكية خلال ثلاث سنوات فقط، ثم سجلت انهيارا صاروخيا بين ليلة وضحاها. كما لم يسبق لسوق العملات المشفرة منذ نشأته وسطوع نجم البيتكوين، أن تسبب شخص واحد وشركته بكل هذه الأذية وهذه الخسائر التي لحقت بملايين المستثمرين في أسواق التشفير حول العالم. سام بانكمان فريد اسم عصفت به كبرى وسائل الإعلام العالمية وأسواق المال والعملات المشفرة في الشهرين الأخيرين من 2022، وكان حتى الأمس القريب الإسم الأشهر للاستثمار في الأصول الأكثر سخونة وإثارة في عالم العملات المشفرة (Cryptocurrency). بانكمان فريد، الذي اشتهر بالأحرف الأولى من اسمه "SBF"، هو شاب في الثلاثين من العمر ذو وجه طفولي وشعر أسوَد جامح، يرتدي سروالا قصيرا وكنزة قطنية صيفية، تحسبه تلميذا رفيق سمر وسهر لا صاحب لقب "ملك العملات المشفرة". هو راعي الأندية الرياضية ومنظمات حقوق الحيوان ورجل العطاء و"فاعل الخير". إنها الصورة الودية التي عمل الملياردير "المحتال" على ترويجها في العالم. كيف بنى إمبراطورية مالية بمليارات الدولارات ما لبثت أن انهارت؟ إنها لقصة قصيرة عمرها خمس سنوات تصلح أن تتحول إلى فيلم سينمائي.
ولد صاموئيل بانكمان فريد، في 6 مارس/ آذار 1992، في بالو ألتو، في ولاية كاليفورنيا. هو نجل إثنين من أساتذة القانون في جامعة ستانفورد، درس الفيزياء في معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT). عمل بعد تخرجه في تداول المراجحة (Arbitrage) في شركة "جاين ستريت كابيتال" (Jane Street Capital) العالمية للتداول وتوفير السيولة. بعد ثلاث سنوات فقط من انضمامه إلى الشركة، اكتشف عالم العملات المشفرة الواعد، فانتهز فرصة خوض غمار هذا السوق الناشئ والمزدهر، مستفيدا من خبرته في المراجحة، وهو كان سبق له أن عمل في شراء عملة البيتكوين من الولايات المتحدة وبيعها في اليابان، محققا أرباحا تصل إلى 10 في المئة، نظرا الى فرق الأسعار.
"ألاميدا ريسرش" و "FTX"
في عام 2017، أسس بانكمان فريد شركته الخاصة، "ألاميدا ريسرش" (Alameda Research)، وهي شركة تداول توفر السيولة في أسواق العملات المشفرة والأصول الرقمية، وشغل منصب الرئيس التنفيذي لها حتى عام 2019.خلال مرحلة إدارته "ألاميدا"، انتقل إلى هونغ كونغ، منجذبا الى سوق العملات المشفرة المزدهرة هناك. في أبريل/ نيسان 2019، أسس شركة "أف. تي. أكس. للتداول" (FTX Trading)، وكانت سبب تحوله إلى شخصية مشهورة حققت ثروة كبيرة من تداول مشتقات العملات المشفرة. ازدهرت الشركة الى حين انتشار جائحة كوفيد-19 في عام 2020، مما دفعه إلى نقل مقرها الرئيسي إلى جزر الباهاماس، حيث يمكنه إدارتها مع قيود أقل أثناء الوباء. وتمكن "SBF"، إذ صار يشار إليه بالأحرف الأولى من إسمه، من إقناع منافسته، شركة "بايننس" (Binance)، بأن تكون المستثمر الأول في "FTX".هكذا أنطلقت منصة "FTX" في مايو/ أيار 2019، وسرعان ما نمت لتصبح واحدة من البورصات الرائدة في العالم لشراء مشتقات العملات المشفرة وبيعها. في غضون ثلاث سنوات فقط، بلغت قيمتها مليار دولار وتمكنت من جذب نخبة من المستثمرين البارزين، مثل "بارادايم" (Paradigm) و"سيكويا كابيتال" (Sequoia Capital)، وصندوق الثروة السيادية في سنغافورة "تيماسيك" (Temasek).في أوائل 2022، قدّر المستثمرون شركة "FTX" بقيمة إجمالية بلغت 40 مليار دولار، مما جعلها تحتل مكانتها المميزة في التاريخ، في حلول شهر مايو/ أيار 2022، تمكنت الشركة من الاستحواذ على منافستَيها في القطاع، "Coinbase" و"OKX"، حيث وصل حجم تداول السوق الفوري على منصتها إلى 89 مليار دولار.
وقتذاك أُطلِق على بانكمان فريد لقب "ملك العملات المشفرة"، وأصبح أحد أقوى المؤثرين في هذه الصناعة، وذلك بفضل منصة التداول "FTX"، التي صُنِّفت في وقت من الأوقات كثالث أكبر بورصة للعملات المشفرة في العالم، إضافة الى شركته "ألاميدا ريسرش".
السقوط من القمة
بعد ذلك بدا المشهد مثيرا وأجمل بل أغرب من أن يُصدَّق أو يُستمَر، ولا سيما في وقت كان العالم يواجه الترددات الاقتصادية والمالية للحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، وبدء مسيرة البنوك المركزية في العالم عمليات رفع الفوائد المتكررة تبعا لقرارات الإحتياطي الفيديرالي الأميركي، الأمر الذي أثّر على صناعة البيتكوين والعملات المشفرة عموما. ابتداء من أول نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، انحدرت "FTX" على الفور نحو أزمة سيولة، فيما عرضت "بايننس"، أكبر بورصة للعملات المشفرة في العالم، شراء الموارد المالية لنظيرتها، إلا أنها ما لبثت أن سحبت عرضها حينما اكتشفت الوضع المزري لحسابات "FTX" المالية وانها لم تعد قابلة للإنقاذ. انسحاب “باينانس” ترك بانكمان فريد مترنحا على حافة الانهيار، بلا مشترٍ وبدون أي عرض من أي مستثمر منقذ. وهرع مستخدمو المنصة الى سحب استثماراتهم على نحو جماعي وبوتيرة متسارعة.