بعد فترة انتظار وترقب، أصدرت إدارة الرئيس جو بايدن في 12 أكتوبر/ تشرين الأول استراتيجيتها للأمن القومي.
وقد طال انتظار الاستراتيجية هذه لأن العادة جرت على أن الإدارة الجديدة تصدر استراتيجيتها للأمن القومي خلال عامها الأول في الحكم. أما هذه المرة، فقد تم تأجيل الإصدار لأسباب متنوعة، على رأسها الآثار الدولية لوباء كوفيد 19- والحرب في أوكرانيا. لذلك فإن الاستراتيجية التي صدرت بعد ما يقرب من 20 شهرًا من تنصيب الرئيس بايدن ، جاءت لتأكيد السياسات التي تنتهجها الادارة بالفعل.
كما انها كانت مترقبة لتطلع الكثيرين الي تأكيد من أن عددا من سياسات ادارة ترمب تم التراجع عنها سواء كان ذلك بشأن إيران أو كوريا الشمالية أو حلف شمال الأطلسي أو القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن موضوع هذه المقالة هو سياسة ادارة بايدن تجاه الشرق الأوسط كما ورد في وثيقة الاستراتيجية، الا انه من المفيد عرض تلك السياسة في إطار السياق العام للإستراتيجية وبصفة خاصة علاقات واشنطن مع منافسَيْها وخصميها الرئيسيين روسيا والصين.
الاستراتيجية انعكاس لرؤية الادارة
بداية، فإن وثيقة استراتيجية الأمن القومي هي انعكاس لرؤية الادارة لكيفية تحقيق المصالح الاميركية التي هى في الاساس داخلية في ظل بيئة دولية متغيرة وغير مستقرة وتكون عدائية في بعض الاحيان.
كما تعكس هذه الاستراتيجيات، بشكل او بآخر السمتين الرئيسيتين اللتين تتصارعان على تحديد السياسة الخارجية الأميركية، وهما المثالية والواقعية والتجاذب المستمر القائم بينهما، حيث تميل استراتيجيات الديمقراطيين الى المثالية بينما تكون الجمهوريين أكثر واقعية. كذلك تتعرض الإستراتيجيات لمسألة الريادة الاميركية على المستوى العالمي وكيفية الحفاظ عليها، كمًا انها تتضمن رسائل إلى الحلفاء والخصوم في آنٍ واحد بالاضافة الى عرض للسياسات التي ستتبعها الولايات المتحدة لنشر قيم الحرية والديمقراطية في العالم. الواقع أن تلك الاستراتيجيات تعمل على تشكيل البيئة الخارجية على النحو الذي يدعم رفاهية المواطن الاميركي.
إدارات باستراتيجيات مختلفة
منذ عام 1987 و بناء على طلب من الكونغرس، تصدر الولايات المتحدة استراتيجيات للأمن القومي، حيث صدرت خلال الفترة 2002 -1987 مثل هذه وثيقة كل عام او عامين. لكن بعد ذلك و منذ عام 2006 كانت الاستراتيجيات تصدر بوتيرة أقل بمعدل وثيقة واحدة لكل ادارة و عليه تكون الولايات المتحدة أصدرت 18 إستراتيجية تغطي فترة حكم ستة رؤساء بما فيها الرئيس الحالي.
اشتهرت استراتيجية الرئيس جورج بوش الابن بإدخال عقيدة "الحرب الاستباقية" التي استُخدمت في تبرير غزو العراق ومهدت الطريق لما سمي بـ "الحرب على الإرهاب" التي استمرت لمدة تجاوزت رئاسته وألقت بظلالها القاتمة على من تبعه من رؤساء.
أما استراتيجية الرئيس أوباما، فقد جاءت متوافقة مع النزعة المثالية للحزب الديمقراطي بطموحها في حماية العالم من خطر الأسلحة النووية والسعى إلى توسيع إستخدام القوة الناعمة الاميركية للتغلب على الفقر والمرض على مستوى العالم.
ثم جاءت استراتيجية الرئيس ترامب التي تمحورت حول مفهوم "اميركا أولاً"، بمعنى أن الولايات المتحدة ستسعى وراء تحقيق مصالحها الوطنية من دون الاكتراث بمصالح حلفائها و شركائها. ،كما أعلنت أن حقبة مكافحة الإرهاب انتهت ليحل مكانها حقبة تنافس القوى العظمى و تحديدا مع الدول "المُراجِعة" Revisionist التي تطالب باعادة النظر في النظام الدولي القائم.
وتؤكد جميع استراتيجيات الأمن القومي أن الولايات المتحدة تعمل في بيئة دولية تشمل خليطا من الحلفاء والشركاء والمنافسين والخصوم. وفيما تقوم تلك الاستراتيجيات بوضع تصور للسياسات العامة على المستوى الدولي، الا انها تقوم أيضًا بتكييف تلك السياسات لتتناسب مع مناطق محددة تمثل أهمية خاصة للولايات المتحدة.
حلفاء الولايات المتحدة لم يتغيروا منذ عقود، وهم بالأساس أولئك الذين يشتركون معها في اعلاء قيم الحرية والديمقراطية وغالبيتهم في أوروبا وحول شواطئ المحيط الهادئ.
أما الخصوم والمنافسون الرئيسيون للولايات المتحدة، فهم دائما الاتحاد السوفياتي السابق، وروسيا حاليا والصين.
ليس من المستغرب إذًا، أن أول وثيقة استراتيجية للأمن القومي والتي أصدرها الرئيس ريغان عام 1987 كانت سلبية للغاية تجاه الاتحاد السوفياتي. غير انه بعد عام واحد فقط اعترافًا بالإصلاحات التي قام بها الزعيم السوفياتي غورباتشوف، عكست الاستراتيجية التي صدرت في عام 1988 تحولاً إيجابيا تجاه موسكو. واستمر ذلك التحول في عهد الرئيس جورج بوش الأب الذي أصدر ثلاث استراتيجيات، في أعوام 1993، 1991، 1990 خلال ولايته الوحيدة للأخذ في الاعتبار التحولات الدولية الناتجة عن انهيار الاتحاد السوفياتي. و خلال عهد الرئيس كلينتون، وصفت استراتيجية عام 1994 روسيا بالشريك للولايات المتحدة، غير أن روسيا بدأت فقدان تلك الوضعية تدريجيًا منذ وُضعت استراتيجية أوباما التي أصدرها في عام 2015 في أعقاب أزمة أوكرانيًا عام 2014.
استراتيجية بايدن
أما استراتيجية بايدن، فإنها تصف روسيا بأنها "متراجعة ومنهكة"، وأنها "تشكل تهديدًا مباشرًا ومستمرًا لنظام الأمن الإقليمي في أوروبا، ومصدرًا للاضطراب وعدم الاستقرار على مستوى العالم".
بالتوازي، تعرّض موقف الولايات المتحدة تجاه الصين لتغير تدريجي ليعكس المكانة والأهمية العالمية المتنامية لبكين، حيث وُصفت الصين في استراتيجية أوباما لعام 2010 بأنها مجرد "مركز تأثير"، وبحلول عام 2015 وصف التعاون بي الولايات المتحدة و الصين بـ"غير المسبوق". أما استراتيجية ترامب التي صدرت عام 2017، فاعتبرت الصين "تحديًا لقوة و نفوذ و مصالح أميركا". وأخيرأصبحت الصين في استراتيجية بايدن، المنافس الأكبر للولايات المتحدة.
المناطق التي تمثل الأولويات الرئيسة للولايات المتحدة، لم تتغير كثيرًا. فهى دائمًا أوروبا وشرق آسيا (أو ما عرف فيما بعد باسم منطقة المحيطين الهادئ و الهندي). وبطبيعة الحال، فإن منطقة الشرق الأوسط حاضرة، لكنها متأخرة في الترتيب. وقد جاء الاستثناء لتلك الحالة حينما جرى التأكيد على أهمية تلك المنطقة خلال ذروة ما أطلق عليه "الحرب ضد الارهاب" ابان حكم الرئيس جورج بوش الابن في الفترة 2009 - 2001 .