في 11 مارس/آذار 1976، تسمّر اللبنانيون أمام شاشات التلفاز الأبيض والأسود الذي لم يكن قد اكتسى ألوانا بعد، ليطالعهم مشهد دراميّ. كانت مثل هذه المشاهد معتادة في معظم العواصم العربية، إلا أنه كان جديدًا تمامًا على بيروت.
وقع انقلاب عسكري بزعامة العميد الركن عبد العزيز الأحدب، وهو من مواليد طرابلس وكان له من العمر حينئذٍ ٥٩ عامًا. احتل الأحدب بقواته التلفزيون اللبناني في تلة الخياط، وقطع البث في الساعة 8:30 مساءً ببيان أطلق عليه اسم البيان رقم 1. هكذا كانت تُعلن الانقلابات عادة في العالم العربي، عبر سلسلة من البيانات الرسمية التي تبثّها الاذاعة، مصحوبةً دائمًا بموسيقى الاستعراض العسكري، قبل أن يبدأ التلفاز في الظهور في الستينيات.
لم يكن الأحدب جنرالاً تقليديًا في الجيش، فقد درس الأدب الإنكليزي والتاريخ، أولًا في جامعة شيفيلد في المملكة المتحدة، ثم في جامعة القاهرة، قبل أن يُكمل دراسته العسكرية. على أي حال، كان الأحدب قد أعلن للتو الأحكام العرفية ونصّب نفسه حاكما عسكريا على لبنان. جاء ذلك بعد 11 شهرا من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، في الوقت الذي بدأ فيه الجيش اللبناني في التفكك. وبزيّه العسكريّ الكامل، ومسدّسه الظاهر على المنضدة أمامه، دعا الأحدب مجلس النواب إلى الانعقاد واختيار رئيس جمهورية جديد. وطالب الرئيس القائم حينئذٍ، سليمان فرنجية، بالتنحّي خلال الساعات الاربع والعشرين القادمة.
رفض فرنجية أن يتزحزح عن منصبه، متمسكًا بالسلطة باسم "المشروعية والشرعية". أضاف أن هناك ثلاثة شروط لخلو رئاسة الجمهورية: الاستقالة أو الوفاة أو الإقالة من مجلس النواب. قال فرنجية "لا شيء من هذا حاصل".
أصرّ الأحدب على أنه لا يريد استلام سدّة الرئاسة - مرددًا جملةً ينطق بها كثيرًا العديد من الجنرالات العرب، وكان آخرهم في تلك الأزمنة معمّر القذافي الذي استولى على السلطة في ليبيا قبل سبع سنوات من ذلك الحين. لكن سرعان ما تلاشى الانقلاب في لبنان وفشل بالحصول على دعم جدّي داخل القوات المسلحة. لم يُعدم الأحدب، ولم يُسجن أو ينف.
عاش الاحدب حياة طويلة، وتوفي عن عمر يناهز 94 عامًا في عام 2011.لو قدّر له النجاح، لكان انقلاب الأحدب هو الأول من نوعه في لبنان، شأنه في ذلك شأن انقلاب بكر صدقي في العراق (1936)، وحسني الزعيم في سوريا (1949)، وجمال عبد الناصر والضباط الأحرار في مصر (1952). لا بد أن الأحدب استلهم فعلته تلك من هؤلاء الضباط الطموحين الذين نفذوا انقلابات ناجحة في بلدانهم وأسقطوا النظم القائمة هناك والتي كانت في كثير من الأحيان أنظمة ديمقراطية وأجهضوا البرلمان والدستور، ثم أقاموا ديكتاتورية عسكرية تتمحور حول شخصياتهم الكاريزماتية المتباهية.
وبينما رأى كثيرون أن انقلاب الأحدب "لم يكن لبنانيًا"، فإن نظرة فاحصة تظهر أنه ربما لم يكن سوى نتيجة طبيعية لتوسع نفوذ الضباط اللبنانيين الذين سعوا لملء المقعد الرئاسي في قصر بعبدا. بدأ هذا الاتجاه مع فؤاد شهاب الذي كان قائدًا للجيش قبل أن يتولى الرئاسة في الخمسينيات. واستمر هذا التوجه حتى وصول ميشال عون إلى السلطة في 2016. وحاول الأحدب القيام بذلك عبر انقلاب شامل، بينما تولى سلفه وخلفاؤه السلطة من خلال أوراق الاقتراع، لا أعيرة الرصاص.
سنوات التأسيس: ١٩٥٢-١٩٥٨
كان فؤاد شهاب أول جنرال لبناني يتحول إلى رئيس. وقد ولد لعائلة مارونية معروفة في 1902. وبدأ حياته العسكرية في جيش الشرق المتمركز في لبنان، وهو الجيش الذي كان تابعًا للانتداب الفرنسي. في وقت مبكر من استقلال لبنان، عُيّن شهاب قائدًا للجيش اللبناني في 1945. وكان في مكتبه في مقر قيادة الجيش عندما وصلته أنباء الانقلاب الذي أعلنه نظيره السوري حسني الزعيم في دمشق، وإطاح فيه بالرئيس السوري المنتخب ديمقراطيًا شكري القوتلي في مارس/ أذار 1949.
أطلق هذا الانقلاب العنان لطموح العديد من الضباط في بلدان الجوار العربية، ومن بينهم المقدم جمال عبد الناصر ورفاقه، الذين قاموا بانقلاب ناجح بعد ثلاث سنوات فقط، وأسقطوا نظامهم الملكي وملكهم فاروق الأول. لا نعرف ردّ فعل اللواء فؤاد شهاب على الانقلاب السوري عام 1949، وما إذا كان قد أثار فيه أي طموحات رئاسية أم لا.كانت المظاهرات الغاضبة بالفعل جزءا من الحياة اليومية في لبنان، وتطالب باستقالة الرئيس بشارة الخوري، صديق القوّتلي.
واتُهم الرئيس اللبناني، من بين أمور أخرى، بالمحاباة لنجله خليل وأخيه سليم، وبإدخال الجيش اللبناني في معركة غير متكافئة في فلسطين، وهي المعركة التي شعر كثير من المسيحيين اللبنانيين أنها لا تعنيهم. والأهم من ذلك، اتُهم خوري بتعديل الدستور في مايو/ أيار 1948، بما سمح له تمديد فترة ولايته الرئاسية.
رفض شهاب إرسال الجيش لمواجهة المظاهرات المناهضة لخوري. ومع ذلك، وقبل أربع وعشرين ساعة من الانصياع والاستقالة، كلفه الرئيس بتشكيل الحكومة في 18 سبتمبر/ أيلول 1952. شغل شهاب منصبي رئيس الوزراء ووزير الدفاع لمدة 14 يومًا، ثم استقال في 1 أكتوبر/تشرين الاول 1952 بعد انتخاب كميل شمعون رئيسًا.
وفي عهد شمعون، عاد شهاب إلى ثكنته العسكرية لمواصلة عمله قائدًا للجيش. لم يخفِ شمعون، رئيس لبنان الجديد آراءه الموالية للغرب، حيث استضاف قمة عربية في بيروت عام 1956 لإقناع القادة العرب بعدم قطع العلاقات مع بريطانيا العظمى وفرنسا، في ظل العدوان الثلاثي على مصر الذي انطلق في أعقاب تأميم عبد الناصر لقناة السويس.
أصرّ شمعون فقط على انسحاب الإسرائيليين من مصر، ما دفع رئيس الوزراء عبد الله اليافي، الذي كان مواليًا لجمال عبد الناصر، والوزير صائب سلام الى تقديم استقالتيهما والانضمام إلى المعارضة. كلف شمعون أحد وجهاء المدرسة القديمة، سامي الصلح، بتشكيل الحكومة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، ولم يعين أحدا غير فؤاد شهاب وزيراً للدفاع.
اندلع تمرد ضد شمعون في 1958، بدعم من جهاز مخابرات عبد ناصر، بهدف الإطاحة بالرئيس اللبناني قبل أن يرشح نفسه لولاية ثانية. كان الرئيس قد بدأ يتلقى بالفعل أسلحة أميركية منذ عام 1953، ومنَح سلاح الجو الأميركي حقوق استخدام المجال الجوي اللبناني. لم ينضم شمعون رسميا إلى "حلف بغداد" المناهض للشيوعية، لكنه لم يخف دعمه له.
كما رفض الانضمام إلى الاتفاقية العسكرية المصرية السورية في سبتمبر/ أيلول 1955 والتي أيدتها المملكة العربية السعودية. وفي 27 مارس/ آذار 1958، أعلنت المعارضة بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله اليافي، والزعيم الدرزي كمال جنبلاط، أن إعادة انتخاب شمعون ستكون غير دستورية، داعين إلى حملة وطنية لإسقاطه. وردّ شمعون بطلب مساعدة عسكرية من الأميركيين.وفي 15 يوليو/ تموز 1958، بدأ مشاة البحرية الأميركية بالنزول على شواطئ خلدة، جنوب بيروت.
بينما توجهت الدبابات الأميركية نحو العاصمة. وعلى مدار الأيام الأربعة التالية، وصل 15 ألف جندي أميركي إلى لبنان على متن 70 سفينة حربية. لم يكن هدفهم إبقاء شمعون في منصبه، ولكن تأمين انتخاب خليفة له. ورأى الأميركيون أن لبنان كان ذا أهمية استراتيجية كبيرة بحيث لا يمكن أن يسمح له بالانزلاق إلى الفوضى. ويرجع ذلك إلى دوره في محاربة الناصرية والشيوعية. اقتنع شمعون بعدم السعي الى إعادة انتخابه. وفي 31 يوليو/ تموز 1958، اجتمع مجلس النواب، وانتخب فؤاد شهاب خلفا له. ما جعله ثالث رئيس للبنان بعد الانتداب والأول في ترتيب القادة العسكريين الذين تولوا رئاسة الجمهورية.
رئاسة فؤاد شهاب (٢٣ سبتمبر ١٩٥٨ – ٢٢ سبتمبر ١٩٦٤)كان شهاب رئيسًا قويًا غير ميّال إلى العواطف. بدأ عهده باستمالة ثوار عام 1958 واسترضائهم. وكلف زعيمهم في طرابلس رشيد كرامي بتشكيل حكومة جديدة. تبنى شهاب الحياد في الصراع العربي، لكنه كان متحالفًا بوضوح مع عبد الناصر الذي اختاره ليكون أول من يتحدث معه من بين العرب. وقابله على الحدود اللبنانية السورية في مارس 1959. وفي 22 نوفمبر 1960، تحدث شهاب في ذكرى استقلال لبنان، وأعلن عن سياسة أطلق عليها منذ ذلك الحين اسم "الشهابية" تركز على الإصلاح الاجتماعي الشامل وبناء مجتمع جديد.
تمثلت الركائز الأساسية لتلك السياسة الاجتماعية في إيجاد نخبة جديدة للبلاد، وتعزيز القوات المسلحة والبيروقراطية، التي كانت تتوسع مع ضم 10 آلاف موظف مدني، معظمهم من التكنوقراطيين لا انتماءات سياسية لديهم. وسعى إلى تمكين السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية وتعزيز سلطة الحكومة المركزية. ومنح المزيد من الوظائف الحكومية للمسلمين اللبنانيين الذين شكلوا العمود الفقري لمعارضة كميل شمعون والذي تصادف أنه كان أيضًا معارضا لمصر. حاول الرئيس شهاب موازنة الطائفية وإدارتها بدلاً من التخلص منها نهائيًا.
في اليوم الأخير من عام 1961، وقع انقلاب فاشل من ضباط من الحزب السوري القومي الاجتماعي. نجح الانقلابيون في الاستيلاء على وزارة الدفاع، ولكنهم كانوا أقل قوة من رجال جيش شهاب، وانتهى أمرهم. كانت محاولة الانقلاب نعمة مقنّعة للضابط الذي صار رئيسًا. فقد استخدمها كذريعة لتوسيع دور أجهزته الأمنية، المعروفة باسم "المكتب الثاني".
وفي المطاردات التي تلت ذلك، قُبِض على 12 ألف شخص، وأرسل 300 منهم إلى المحكمة. أما معارضو شهاب، فقد اتهموه بإقامة دولة بوليسية منذ ذلك الحين. وفي 23 يونيو/ حزيران 1963، انتقد النائب ريمون إده الرئيس انتقادًا شديدًا في البرلمان، واتهمه بالتحول إلى ديكتاتور صغير.
حاول الموالون لشهاب إقناعه بالسعي إلى فترة رئاسية ثانية، ما دفع 79 نائبًا في البرلمان للتوقيع على عريضة يهددون فيها بـ"تكرار أحداث ١٩٥٨ بشكل معاكس"، في إشارة إلى أحداث التمرّد السابق التي تولاها ائتلاف من القادة المسلمين الذين عارضوا شمعون حين كان يسعى إلى إعادة انتخابه مرة أخرى. وأما الآن، فإن القادة المسيحيين يهددون بتكرار ذلك ضد شهاب ومسعاه لإعادة انتخابة. وفي 17 أغسطس/ آب 1964، قال شهاب إنه لن يسعى لولاية أخرى، واختير المفكر المدني شارل حلو كبديل وسط.
رئاسة إميل لحود (٢٤ نوفمبر ١٩٩٨ - ٢٤ نوفمبر ٢٠٠٧)
في عام 1998، اختير للبنان رئيسه العسكري الثاني، العماد إميل لحود. جاء ذلك بعد 34 عامًا من نهاية عهد شهاب. انتخب لحود لخلافة الياس الهراوي بتأييد السوريين الذين كانوا يسيطرون بالكامل على لبنان حينها (وكان جيشهم قد دخل لبنان أيام رئاسة سليمان فرنجية). ولد لحّود عام 1936، وينحدر من عائلة مارونية بارزة. كان والده ضابطًا، بينما كان عمه وزيرًا سابقًا للخارجية، وكان شقيقه من القضاة البارزين. درس لحود في الأكاديمية العسكرية اللبنانية، وكلية دارتموث البحرية في المملكة المتحدة، بالإضافة إلى كلية الحرب البحرية الأميركية في نيوبورت، رود آيلاند.
التحق لحود بالجيش اللبناني، وترقّى إلى رتبة ملازم عام 1969. وفي عام 1989، رُقي إلى رتبة عماد وقائد للجيش بدعم من سوريا. وكُلّف بمصادرة السلاح، وتوحيد القوات المسلحة بعد اتفاق الطائف.
وبقي في منصبه حتى عام 1998 حيث اختير خلفًا لإلياس الهراوي. كان ذلك فقط بعد تعديل دستور "ما بعد اتفاق الطائف" للسماح لقائد الجيش بالترشح لمنصب الرئيس فور ترك وظيفته العسكرية. وبدعم سوري، حصل لحود على 118 صوتًا من أصل 128 صوتًا في البرلمان.
وكرئيس للبنان، تحالف لحود مع "حزب الله"، واختار سليم الحص ليحل محل رفيق الحريري رئيسًا للوزراء، ما ادى الى توتر دائم بينه وبين الحريري. حقق الحريري فوزا كبيرا في الانتخابات النيابية عام 2000، ما أجبر لحود على إعادة تعيينه رئيساً للوزراء، على كراهة شديدة منه لذلك.
في أغسطس 2001، أجرى لحود تعديلًا لحدود السلطة التنفيذية للرئاسة المنصوص عليها في اتفاق الطائف، وأمر بشن حملة واسعة النطاق على المعارضين. وعندما انتهت ولايته التي استمرت ست سنوات في عام 2004، ضغطت سوريا من أجل تمديد فترة ولايته لمدة ثلاث سنوات، بدعم كامل من "حزب الله".
وأدى ذلك إلى قطيعة نهائية بينه وبين الحريري، الذي عارض بشدة تمديد ولاية لحود حتى نوفمبر 2007. ومع ذلك، عارض 29 نائبًا فقط التمديد للحود، وهو العدد الذي كان أقل مما هو مطلوب دستوريًا لإعاقة التمديد له عبر البرلمان، ما دفع أربعة وزراء بالحكومة إلى الاستقالة احتجاجًا على ذلك في 7 سبتمبر 2004.
أمسك لحود بتلابيب السلطة في السنوات الثلاث التالية، وكان شاهدًا على اغتيال الحريري في 14 فبراير / شباط2005، والذي ألقي فيه اللوم فيه على حفنة من كبار جنرالاته الذين اعتقلوا ثم أطلق سراحهم بعد إعلان براءتهم من التهم الموجهة إليهم. وفي عهد لحود، خاض لبنان حربًا ضد إسرائيل في عام 2006. وعندما انتهت ولايته، غادر لحود قصر بعبدا، تاركًا وراءه فراغًا رئاسيًا لمدة ستة أشهر. ولم يتم ملؤه حتى 25 مايو 2008 بانتخاب قائد الجيش ميشال سليمان، الثالث في صف الضباط الذين تولوا الرئاسة.