تبدو منطقة الحكم الذاتي الفعلية في شمال وشمال شرق سوريا والتي يشير إليها الأكراد باسم "روج آف"، في حالة تتزايد خطورة. أما حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وهو حزب كردي يهيمن على روجافا، فتعتبره تركيا منظمة إرهابية بسبب صلاته بحزب العمال الكردستاني (PKK). وتهدد أنقرة بغزو آخر لسوريا بعدما استولت بالفعل على مساحات شاسعة من الأراضي بين عامي 2016-2018. والذريعة هذه المرة هي الانتقام من هجوم اسطنبول الإرهابي الذي وقع في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 وأسفر عن مقتل ستة أشخاص في شارع "استقلال"، وهو عمل يزعم الأتراك أن التي نفذته سيدة سورية تعمل مع حزب العمال الكردستاني.
في الوقت الراهن، أخذت حماية الولايات المتحدة للأكراد السوريين في التأرجح، حيث تغض إدارة بايدن الطرف عن التدخل التركي الذي بدأ في 20 نوفمبر/تشرين الثاني، والذي أطلق عليه اسم "عملية المخلب السيف". في غضون ذلك، تواصل الحكومة السورية في دمشق إنكار إعلان الأكراد الحكم الذاتي في روجآفا واعتبارها غير شرعية. وأما الداعمون الروس الذين لعبوا دورا رئيسا في الماضي في التوسط في الصفقات التي جرت بين روجافا ودمشق، فقد تشتت انتباههم على أثر الحرب الأوكرانية، ويبدو أنهم باتوا يتكيفون بشكل متزايد مع المخاوف الأمنية التركية. ويمكن القول إن روجافا اليوم تواجه حالة من عدم اليقين أكثر من أي وقت مضى خلال 11 عامًا من الصراع السوري، أو بشكل أكثر تحديدًا، منذ أن هزم مقاتلوها مقاتلي تنظيم (داعش) في 2019. فهل يكون هذا بداية النهاية للحكم الذاتي الكردي في سوريا؟ أم أن الحكم الذاتي هذا سيتمكن من الصمود؟
كيف نشأت منطقة الحكم الذاتي الكردية
دبت الحياة في فكرة "روجافا" في 2012، أي بعد عام واحد من بدء الصراع السوري. وعندما انسحبت القوات الحكومية من أجزاء من الشمال والشرق لتركيز انتباهها على المناطق الأ كثف سكانا، أكد حزب الاتحاد الديمقراطي سيطرته على منطقة الفراغ الحاصل هناك. وكان انتقال الحكم في تلك المنطقة إلى أيدي حزب الاتحاد الديمقراطي في الواقع سريعًا سهلاً لدرجة أن البعض اتهم الأكراد بالتواطؤ والتعاون مع دمشق، وهي نظرية تبدو معقولة نظرًا لعلاقات الحكومة السورية الطويلة مع حزب العمال الكردستاني، والذي كان زعيمه عبد الله أوجلان ضيفًا على سوريا حتى خروجه القسري منها في عام 1998. وقد ظلت علاقات الأكراد مع نظام بشار الأسد غامضة، مع استمرار دمشق في دفع رواتب موظفي الحكومة في المناطق الكردية التي أخليت وتجنب الصراع العسكري معهم إلى حد كبير.
وعندما عزز حزب الاتحاد الديمقراطي سيطرته على المدن والبلدات الواقعة شرق نهر الفرات، هُزمت الجماعات الكردية المنافسة، ما سمح لحزب الاتحاد الديمقراطي، في أوائل 2014، بإعلان المناطق الواقعة تحت سيطرته على أنها أقاليم "روجافا" الثلاثة، وهي كلمة كردية تعني "الغرب"، أي "كردستان الغربية".
الأهم من ذلك، أن ذلك بدا وكأنه إعلان كردي للحكم الذاتي وليس للاستقلال. وقد أصرت قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي على أن الاستقلال (أو الانفصال) ليس هدفهم، وأن حقيقة الأمر هي تنفيذ رؤية عبد الله أوجلان للأراضي الكردية، المتمثلة في إنشاء مجالس ديمقراطية محلية مستقلة تقدمية.
بالنسبة لمؤيدي الأكراد في شمال شرق سوريا، وفي أوساط المعجبين بهم في الغرب، كانت هذه بمنزلة مدينة "فاضلة" تقدمية، باعتبار من يراها ديمقراطية محلية حقيقية تجد نفسها بين طيات شرق أوسط استبدادي استبدادًا عظيمًا واسعًا. لهذا، جرى الاحتفاء على نحو خاص بالمساواة بين الجنسين في الأقاليم الكردية، حيث أصبحت رئاسة أي مجلس تتشكل بالاشتراك مناصفةً بين الرجال والنساء على سبيل الإلزام، إلى جانب إنشاء ميليشيا نسائية بالكامل، تعرف بوحدات حماية المرأة (YPJ)، وهي مكلفة بالقتال من أجل الحقوق الكردية يدًا بيدٍ وكتفًا إلى كتفٍ مع نظرائهن من الرجال في وحدات حماية الشعب (YPG). لكن بالنسبة للمنتقدين، لم تكن هذه المجالس الكردية المحلية سوى واجهة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث لا يُسمح إلا بقليل من المعارضة الحقيقية في "كردستان الغربية".
صعود "داعش"
جاء التحول الحقيقي في مسار "روجافا" والاتحاد الديمقراطي مع صعود "داعش"، الذي اجتاحت قواته مساحات شاسعة من الأراضي في شمال شرق سوريا بعد إعلان ما سماه التنظيم"الخلافة" في 2014. وعلى أثر صعود "داعش"، تلقى الأكراد على الفور تقريبًا الدعم والحماية من الولايات المتحدة. وشكلت واشنطن تحالفًا مع الأكراد بعد انتصار مقاتلي وحدات حماية الشعب ومقاتلات وحدات حماية المرأة على التنظيم في معركة كوباني - رغم كل الصعاب - في أوائل عام 2015. وبتشجيع من الولايات المتحدة، والذي اتخذ شكل الدعم العسكري والمالي، حاول حزب الاتحاد الديمقراطي توسيع قاعدة دعمه من خلال محاولة الظهور بمظهر يبدو عليه الحزب وكأنه أقل تمحورًا حول الأكراد. وأنشأ الحزب ما بات يعرف باسم "قوات سوريا الديمقراطية" (SDF)، التي ضمت المسيحيين السريان في شرق سوريا وبعض العرب إلى التحالف، ثم استبدل بهدوء اسم "روجافا" باسم "منطقة الحكم الذاتي في شمال وشمال شرق سوريا"، وهو اسم عملي يلائم الوظيفة والغرض المقصود منه. وقد أظهرهم ذلك في مظهر أكثر شمولاً، على الرغم من أن الاسم السابق ظل يهيمن على كل الأدبيات والخطابات الكردية. وعلى هذا، سُلمت المناصب العليا في قوات سوريا الديمقراطية، العسكرية والسياسية على حد سواء، لأكراد حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث واصلت الولايات المتحدة توفير الأسلحة والمال والتدريب.
وقد مكن ذلك الحزب في نهاية المطاف من هزيمة التنظيم، واجتياح آخر معاقلهم في الباغوز (بمحافظة دير الزور) في عام 2019. ثم وسع الأكراد رقعة الأراضي الواقعة تحت حكمهم، على نحو عدواني إلى حد ما، على طول الطريق وصولاً إلى الحدود العراقية، متجاوزين بذلك المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال سوريا. وقد أثارت هذه النجاحات المتتالية مشاعر القلق وإشارات التحذير في الأوساط التركية.
المخاوف الأمنية التركية
من وجهة نظر تركيا، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي "هو نفسه" حزب العمال الكردستاني، وهو منظمة انفصالية مسلحة تقاتلها أنقرة منذ أوائل الثمانينيات. وكان العديد من حلفاء تركيا الغربيين، بما في ذلك الولايات المتحدة، قد صنفوا بالفعل حزب العمال الكردستاني ككيان إرهابي. ومع ذلك، شدد حزب الاتحاد الديمقراطي على أن المسلحين الأكراد الأتراك والسوريين كانوا مختلفين، وهو تمييز يبدو أن واشنطن تقبله، بغض النظر عن مدى ضعف هذا الرأي في الواقع. وكان بعض الأكراد السوريين المنتمين للحزب حاليًا قد حملوا السلاح سابقًا للقتال مع حزب العمال الكردستاني في الثمانينيات والتسعينيات، بمن فيهم القائد الحالي لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي.
علاوة على ذلك، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي بفخر تمسكه بأيديولوجية عبد الله أوجلان، ورفع لوحة ضخمة تصور مؤسس حزب العمال الكردستاني في وسط الرقة، بعد تحريره من تنظيم الدولة.
لذلك، ولأسباب أخرى، تنظر أنقرة بريبة كبيرة إلى المجموعة الكردية، وكانت غاضبة من حلفائها الأميركيين لتزويدها بالمال والسلاح والتدريب المتقدم. ولدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخاوف أمنية حقيقية فيما يتعلق بتمكين جميع الجماعات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في سوريا، في حين أن شن الضربات العسكرية ضدهم يلقى دائما صدى جيدًا مع جمهوره المحلي، ما يزيد من معدلات تأييده قبل الانتخابات أو كلما احتاج إلى حشد السكان الأتراك.
ومع استمرار قوات سوريا الديمقراطية في توسيع سيطرتها على الأراضي السابقة التي كانت تخضع لـ"داعش" في جميع أنحاء سوريا، زادت العمليات التركية، وهي التي بلغ عددها ثلاث عمليات على الأقل في أقل من ثلاث سنوات، وكل ذلك بهدف معلن وهو مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود التركية من التهديد الكردي.
في المرة الأولى، استولى الأتراك على مدينة الباب الحدودية والمناطق المحيطة بها في 2016، لمنع قوات سوريا الديمقراطية من السيطرة على المنطقة. ثم انتقلوا بعد ذلك في منتصف ٢٠١٨ الى بلدة عفرين الكردية التي كان يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، ثم تبع ذلك بعد عام واحد المنطقة المحيطة بتل أبيض.
في المناسبتين، طُردت قوات سوريا الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطي معًا، ثم جلبت مجموعات معارضة سورية صديقة لتتولى الحكم في ما أصبح دويلات تابعة موالية لتركيا. ومع ذلك، لم ينته أردوغان بعد، وصرح مرارًا عن نيته تطهير المنطقة الحدودية بأكملها من المسلحين الأكراد، على عمق يصل إلى 30 كيلومترًا داخل الأراضي السورية. وفي منتصف 2022، ألمح إلى إمكان استهداف البلدات الاستراتيجية في تل رفعت شمال حلب، ومنبج، وربما حتى مدينة كوباني التي اكتسبت رمزية معينة.
وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2022، انتشرت شائعات في جميع أنحاء المنطقة، عن غزو تركي وشيك، قبل التفجير الذي وقع في اسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، والذي ربطه أردوغان بحزب الاتحاد الديمقراطي.
وقد ارتفع التوتر إلى مستويات جديدة عندما بدأت القوات التركية في قصف المواقع الكردية في عمق سوريا، مع التهديد بعملية برية كاملة ضد معاقل الأكراد التي تشكل حجر الأساس في دعم حزب الاتحاد الديمقراطي. وعانى الأكراد بالفعل من ضربة كبيرة مع احتلال عفرين في 2018، وهي المدينة التي تأسس فيها حزب الاتحاد الديمقراطي في الأصل، ويخشى قادة "روجافا" على نحو يمكن فهم أبعاده، من أن عملية تركية جديدة من نفس الحجم قد تفضي بمشروعهم إلى أن يصير أثرًا بعد عين لا يمكن الدفاع عنه ما إن تصير تلك المناطق ذات غالبية عربية وليست كردية.
المساعدة من الخارج
ورغبة في تجنب هذا السيناريو بأي ثمن، بدأت قوات سوريا الديمقراطية في التواصل مع الأطراف الخارجية للحصول على مساعدتها. كانت الولايات المتحدة بطبيعة الحال هي أول وجهة للتواصل، بالنظر إلى استمرار قوات بالتمركز داخل مناطق شرق سوريا ولا تزال تسيطر على مجالها الجوي. وقد أكد قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، في مقابلة أجريت معه مؤخرًا في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2022 مع صحيفة "الشرق الأوسط"، أن إدارة بايدن لن تسمح لتركيا بشن "عملية برية مدمرة" ضد قوات سوريا الديمقراطية، مضيفًا أن الحد من وتيرة الضربات الجوية التركية كان بسبب الضغط الأمريكي على أنقرة. ومع ذلك، فقد أعرب عن استيائه من صمت واشنطن بشأن الهجمات التركية السابقة، مدعيًا أنها لم تفعل سوى "الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام".
ويسود قلق واسع النطاق من أن الولايات المتحدة قد حصلت في النهاية على ما كانت تحتاجه بالفعل من قوات سوريا الديمقراطية، بالتالي فإنها ستعطي الأولوية الآن لتحالفها مع تركيا، وهي العضو في الناتو، وليس لأكراد سوريا. هذه المخاوف ليست من دون أساس. فالآن وقد هزم "داعش"، تراجعت اولوية سوريا بالنسبة لإدارة بايدن التي تجد نفسها مضطرة إلى التركيز أكثر على الحرب في أوكرانيا، وهو صراع يتطلب الحياد التركي. وفي مقابل ذلك، قد تغض واشنطن الطرف عن هجمات أنقرة على مناطق قوات سوريا الديمقراطية في سوريا.
يضاف الى ذلك، إن للولايات المتحدة سجل ولاء سيئ مع حلفائها الأكراد. لقد تخلت عنهم لأول مرة في السبعينيات، ومؤخرًا لم تفعل الكثير لمساعدتهم في العراق عندما فقدوا السيطرة على كركوك في 2017. ثم جربت قوات سوريا الديمقراطية شيئا من الخداع الأميركي عندما أعطى دونالد ترامب الضوء الأخضر لغزو أردوغان لتل أبيض في 2019. وربما كان جو بايدن قد قدم تأكيدات بأنه سيكبح تركيا عن شن أي هجوم مستقبلي على سوريا، لكن حزب الاتحاد الديمقراطي محق في التشكك فيما قد يكون المستقبل يخبئه له.