من الأسرار التي لا تخفى على أحد داخل الدوائر السياسية البريطانية أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون لا يزال عاقدا العزم على العودة إلى منصبه على الرغم من إقصائه العام الماضي بشكل دراماتيكيّ، وعلى الرغم من ابتعاده النسبيّ عن الأضواء في أعقاب إقالته غير الرسميّة في سبتمبر/أيلول الماضي. بيد أن المشوار السياسي لجونسون هو أبعد ما يكون عن الانتهاء، مع ازدياد الدلائل المشيرة إلى إعداده العدّة لاقتحام المشهد السياسي من جديد.
حافظ جونسون على شعبيته لدى ناخبين حزب المحافظين على الرغم من اللغط الكبير الذي أحاط مغادرته مقر رئاسة الوزراء في داونينغ ستريت، عندما طفح الكيل بأغلبية النواب المحافظين بسبب إدارته المخزية للبلاد. وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه لا يزال أكثر مرشّحي الحزب شعبية لتولي زعامة الحزب. وظهرت جاذبيته الانتخابية جلية للعيان في مطلع يناير/كانون الثاني عندما كان يتناول العشاء في ضاحية مايفاير الراقية بصحبة مساعديه السياسيين، حيث أسبغ عليه رواد المطعم الثناء، وحثوه على العودة إلى الساحة السياسية.
لا يمكن أيضا استبعاد احتمالات عودة جونسون اذا استمرت معاناة حكومة رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك مع عدد من القضايا السياسية الملحة، ابتداء من أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة جرّاء الصراع في أوكرانيا، وصولا إلى حلّ عدد من المسائل العالقة والمتصلة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، من مثل التوصل الى اتفاق في شأن ايرلندا الشمالية.
يدرك جونسون جيّدا حجم التحديات التي تواجه سوناك. وأوضح بما لا يدع مجالا للشك أثناء إلقاء خطاب أمام نادي كارلتون بلندن، أنه يتعين على حزب المحافظين حمل لواء الدعوة لتحويل بريطانيا إلى ملاذ عالمي يتميز بالضرائب المنخفضة. واعتُبر ذلك بمثابة تحدٍ مباشر لسياسات سوناك الاقتصادية التي تمخضت عن ارتفاع الضرائب في بريطانيا إلى أعلى مستوياتها منذ تسعينات القرن الماضي.
وتشير التوقعات إلى أن جونسون يفكر جديا في العودة إلى تصدّر المشهد السياسي بعد الكشف عن تلقيه تبرعات ضخمة من الموالين لحزب المحافظين، وصلت قيمة أحدها إلى مليون جنيه إسترليني، يمكن الافادة منها في تمويل حملة سياسية. وصرّح مساعدون سياسيون مقرّبون من جونسون بأنه "يتوق" للعودة إلى داونينغ ستريت، وأنه يتحين اللحظة المناسبة لهذه العودة.
وأتيحت لجونسون فرصة تحدّي سوناك وجها لوجه العام الماضي بعدما اضطرّت ليز تراس، خليفته في منصب رئيس الوزراء، إلى تقديم استقالتها. واتضح لاحقا حصول جونسون على تأييد مئة من نواب حزب المحافظين، لكنه آثر في نهاية المطاف ألا يخوض غمار المنافسة أمام سوناك الذي حصل على دعم أغلبية نواب الحزب.
على المستوى الرسمي، تعمّد جونسون أن يكتنف الغموض خططه المستقبلية، لتصدر عنه تلميحات مثيرة إلى احتمال عودته إلى واجهة المشهد السياسي. في الصيف الماضي، وخلال آخر استجواب له كرئيس للوزراء أمام مجلس العموم، أعلن جونسون أنه قد "أتم مهمته على أكمل وجه" كرئيس لوزراء المملكة المتحدة، وحان الآن "وقت الرحيل". أما خطابه الأخير للبريطانيين الذي ألقاه أمام مقرّ رئاسة الوزراء، فتضمن تلميحات غامضة إلى طموحاته المستقبلية. وشبّه جونسون نفسه بسينسيناتوس، الجنرال الروماني الذي تقاعد في مزرعته بعد مسيرة عسكرية حافلة.
لكن جونسون، وكما نوّه أحد علماء الدراسات الكلاسيكية بجامعة أوكسفورد، يعلم تماما أن سينسيناتوس اضطر لاحقا للعودة إلى روما للذود عن الجمهورية ضد الغزاة. لم يخفَ هذا الفارق الضئيل بكل تأكيد عن المحللين السياسيين في بريطانيا، حيث سارعوا إلى الإشارة إلى أن جونسون يقصد من تلميحه ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام العودة إلى السياسة مرة أخرى.