استعرض فريدريك سي هوف (1947) في كتابه المنشور أخيرًا، "الوصول إلى المرتفعات"، قصة شخصية مثيرة للاهتمام عن محاولاته السرية للمساعدة في تحقيق "سلام سوري إسرائيلي". ويخلص هوف إلى أن احتمال تحقيق مثل هذا السلام خلال حياته منخفضة. أخشى أنه على صواب.
أحد استنتاجات هوف المحبطة أنه تبين له، وقد آل الأمر إلى ما هو عليه، أن الولايات المتحدة لم تكن مهتمة حقًّا بتعزيز السلام الإسرائيلي -السوري، على الرغم من أن مثل هذا السلام ربما كان ولا يزال أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة من السلام الإسرائيلي- الفلسطيني. كانت احتمالات تحقيق هذا الأخير بعيدة للغاية على أي حال، مع الأخذ في الاعتبار هدف إسرائيل المتمثل في الاحتفاظ لنفسها بجميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع وجود أقل عدد ممكن من الفلسطينيين على هذه الأراضي، هذا إلى جانب كون الولايات المتحدة "وسيطًا غير أمين" مع دعمها التقليدي الكامل لإسرائيل.
يخلص هوف إلى أنه ربما بدا من العسير على الولايات المتحدة أن تعمل في الوقت نفسه على تحقيق سلام سوري -إسرائيلي وسلام فلسطيني -إسرائيلي. لكن في الواقع، تمتلك الولايات المتحدة عددا كبيرا من الموظفين للتعامل بشكل مناسب مع كلا المسارين في وقت واحد. لذلك، ربما كانت الأسباب السياسية للولايات المتحدة هي المسؤولة عن ذلك، وليس القدرات الأميركية. المهم هو الإرادة السياسية (أو الافتقار إليها). وقد شعر هوف بعدما لم تستجب إدارة أوباما لجهوده، أن "عمله في دمشق والقدس أنتج مفاجأة غير مرحب بها" (ص 108).
هذا كتاب رائع (ومكتوب بصراحة). مع ذلك، يحتوي أيضًا على أجزاء يمكن اعتبارها من قبيل التفكير الحالم. وكلها (بالطبع) مكتوبة من وجهة نظر الولايات المتحدة، مع كون هوف هو "المهندس والوسيط الرئيسي لمبادرة السلام الأميركية التي كانت تجري أحداثها بين عامي 2009-2011 من أجل التوصل إلى سلام بين إسرائيل وسوريا".
يقودني كتاب هوف إلى استنتاج مفاده أن إسرائيل لم تكن (ولا هي الآن) حريصة حقًا على التوصل إلى سلام مع سوريا مقابل ترك جميع الأراضي السورية التي تحتلها (والتي ضمتها لاحقًا بدعم أميركي، واعترف به الرئيس ترامب رسميًا في 2019). الأرجح أن إسرائيل تريد الاحتفاظ بجميع الأراضي المحتلة وإخضاع الدول العربية لقبول الوضع الراهن على المدى الطويل، وهو المتمثل في الهيمنة الإسرائيلية الكاملة وخضوع هذه الدول لها.
ليست إسرائيل هي التي تتوسل من أجل السلام، وهي التي لديها بكل المقاييس أقوى قوات مسلحة في المنطقة، ولكن العكس هو الصحيح: تريد إسرائيل من الدول العربية قبول "إسرائيل الكبرى" كما هي، وتريد من هذه الدول أن تلقى العنَت من أجل السلام، بصرف النظر عن جميع المظالم التي ترتكبها إسرائيل وجرائم الحرب وانتهاكات القانون الدولي التي تصدر عنها.
إن الزمن الذي كان لا يزال من الممكن لإسرائيل أن تصور نفسها فيه على أنها ذاك الطرف الذي يتلقى التهديد دومًا من جانب الدول العربية، قد ولى وانتهى منذ عقود (هذا إن صح هذا أصلا في أي وقت مضى). إن إسرائيل تشن الآن هجمات منتظمة على الأهداف العسكرية السورية داخل سوريا نفسها، من دون أن تذكر هذه الأفعال حتى في عناوين الأخبار.
ويخلص هوف إلى أنه "إذا أصبحت الأرض محل النزاع إسرائيلية بشكل غير قابل للاسترداد، فسوف يسجل التاريخ أن صك الملكية لم يكن دونالد ترامب هو مَن نقله، بل كان الناقل له هو بشار الأسد" (ص 7). هناك شك في صحة هذا الاستنتاج، الذي يتناسب مع نظرية ما يسمى بسلسلة الفرص الضائعة للدول العربية (والفلسطينيون من ضمنهم) في صنع السلام مع إسرائيل، وفي قبول ما يسمى بـ"عروض السلام السخية" التي تقدمها إسرائيل والتي لم تكن في المجمل أكثر من مجرد اقتراحات لإعادة الأجزاء التي سلبتها إسرائيل بالقوة العسكرية من أصحابها العرب الأصليين.
يُظهر هوف فهمًا للموقف السياسي الداخلي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كزعيم لِما يسمّى دولة ديمقراطية، لكنه لا يمتلك فهما مشابها لديكتاتورية مثل تلك الموجودة في سوريا، التي يتعين عليها أيضا أن تأخذ في الاعتبار الرأي العام السوري والعربي، وخاصة حين يتعلق الأمر بفلسطين.
غالبًا ما يُقال إنه لو كان لدى الدول العربية أنظمة ديمقراطية لكان تحقيق السلام مع إسرائيل أسهل كثيرا. مع ذلك، قد يكون العكس هو الصحيح، لأن الديمقراطيات يجب أن تأخذ في الاعتبار الرأي العام في بلدانها أكثر من الديكتاتوريات.
بالنسبة إلى الديكتاتوريين، يمكن أن يكون صنع السلام أسهل نسبيا، مقارنة بالقادة المنتخبين ديمقراطيا. مع ذلك، يمكن للحكومات المنتخبة ديمقراطيا أن تختبئ دائمًا وراء إرادة ناخبيها، حتى لو احتفظت تلك الأغلبية الناخبة بآراء تتعارض بالكلية مع مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، كما هو الحال في إسرائيل.
كان السلام السوري- الإسرائيلي الذي طمح إليه هوف من نوع السلام الأميركي (باكس أميركانا)، الذي كان سيقتضي من سوريا أن تجري تحولا جذريا في نظام تحالفاتها، وأن تقطع تحالفاتها مع إيران و"حزب الله" وتعمل على طردهما عسكريا من سوريا. وكان هذا التحول في نظام التحالفات ليكون أكثر صعوبة وأبعد في التحقيق عما كان يروَّج عنه، وكان هوف على دراية كاملة بهذا الأمر.
يمكن سوريا أن توقف بسهولة نسبية أي شحنات أسلحة إيرانية متجهة إلى "حزب الله" عبر أراضيها، لكن سيكون من المبالغة استنتاج أن سوريا ستتمكن من فرض سيطرتها على "حزب الله" وهو القابع أصلاً داخل لبنان، وبذلك قد تصل الأسلحة الإيرانية إلى لبنان أيضًا من دون عبور الأراضي السورية.
من الغريب أن يتجاهل هوف في كتابه تجاهلاً كليا ذلك التحالف السوري الروسي الطويل الأمد، كما لو أن روسيا لم تكن جزءا أساسيا من التحالفات الاستراتيجية الإقليمية لسوريا.
وكان المنحى الذي انتهجه هوف للتعامل مع التحدي الذي مثّله التوصل إلى سلام بين سوريا وإسرائيل "مدفوعًا بما هو أكثر بكثير من مجرد احتمال تنازل إسرائيل عن الأراضي المحتلة مقابل التمتع بعلاقات طبيعية سلمية مع جارتها السورية (من قبيل افتتاح سفارة أو تبادل تجاري أو نشاط سياحي). وكان هو قد "رأى السلام بين إسرائيل وسوريا على أنه وسيلة في يد الولايات المتحدة لتوجيه ضربة قاضية إلى إيران من شأنها كسر ذراعها اللبنانية". وكذلك فإنه "لم يستطع تصور حصول اتفاق سلام بين دمشق والقدس لا يستلزم إقبال سوريا على تغيير توجهاتها الاستراتيجية وقطعها لجميع علاقاتها مع الأطراف الذين يشكلون تهديدات أمنية لإسرائيل".
كان من المقرر لمثل ذلك النوع من السلام أن يكون "معينا لأميركا على هزيمة إيران وحزب الله"، وهذا هو الذي حفز اهتمام هوف بالتوسط في السلام (ص 29-30).
في الواقع، كان النفوذ الإيراني المتوسع بشدة في المنطقة نتيجة مباشرة للاحتلال الأميركي- البريطاني للعراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين في 2003، وهو الذي كان يشكل حاجزًا قويًا ضد التوسع الإيراني. قامت الولايات المتحدة، بفعل ممارساتها العملية، بفرش السجادة الحمراء لإيران لتوسيع نفوذها في المنطقة. لذلك كانت جهود هوف تهدف جزئيًا إلى انتشال بعض القطع المحطمة ومعالجة بعض الأضرار التي تسببت بها الولايات المتحدة من خلال عمله على دفع سوريا نحو إعادة توجيه نفسها سياسيا (وعسكريا) جذريا.
ويشير هوف إلى أنه على عكس بشار الأسد، كان والده حافظ الأسد يتمتع بشرعية رئاسية أكبر بكثير، وأن معظم السوريين كانوا ينظرون إلى الأمر بالطريقة نفسها. لكن هل كان ذلك هو الحال حقا عندما يفكر المرء في حمَّام الدم الذي جرى في حماة (عام 1982) والتطورات الدموية الأخرى في سوريا؟ ففي نهاية المطاف، كان حكم الأب والابن من طراز ديكتاتوريات قمعية متشابهة، والفرق الرئيس هو أنه في ظل حكم بشار سقط العديد من القتلى جراء الحرب الأهلية التي بدأت في 2011.
يعبّر هوف عن شكوكه حول ما إذا كان بشار الأسد يقول الحقيقة فعلا. وهل كان الأسد "ينوي حقاً محو كل التهديدات التي كانت تستهدف إسرائيل من سوريا مقابل استعادة كل الاراضي التي خسرتها دمشق عام 1967؟ أم أنه كان يأمل في أن يتمكن بطريقة ما من استغفال إسرائيلفيما لا تفعل هي شيئا خلال فترة انسحاب متعددة السنوات ومتعددة المراحل؟ هل اعتقد أنه كان يمكنه خداع الولايات المتحدة لإنهاء العقوبات من دون مقابل؟" (ص 92). لم أكن لأستطيع تخيل أن بشار الأسد بهذه السذاجة.
يضيف هوف أن سمعة الأسد "بين المسؤولين الأميركيين تعود إلى عهد إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، حيث لم يكن هناك من كان يميل إلى تصديق ما كان يقوله على وجهه الظاهر. لقد كان له أن يقول ما بدا له أنه كان بحاجة إلى قوله في لحظة معينة من أجل تعزيز مصلحة سوريا، التي عرّفها بأنها متطابقة مع تلك المصلحة الخاصة بالنظام الذي يرأسه والقائم على أسرة الأسد".
لكن بدلاً من إعطاء أمثلة من الجانب الأميركي نفسه، يقتبس هوف كمصدر ثانوي من الكتاب (الممتاز) لبنته شيلر، وهو المسمى بـ"الحكمة من لعبة الانتظار في سوريا"، الذي ذكر فيه أن "وزير الخارجية كولن باول خرج من اجتماع عقد في شهر أيار/مايو عام 2003 في دمشق وهو يعتقد أنه حصل على التزام من الرئيس السوري بإغلاق مكاتب بعض الجماعات الفلسطينية العنيفة المقيمة في سوريا. اختار بشار [وفقا لشيلر] في الوقت نفسه أن يتعامل مع القضية بطريقة كانت مميزة لنمط حكمه – وهي الامتثال من حيث الظاهر بينما يكون في الوقت نفسه يبحث عن وسيلة للتهرب عبر أي باب خلفي" (ص 165). ووفقا لهوف، "كثيرًا ما أثار الأسد شكوكا (أو ما هو أسوأ منها) حول مصداقيته" (ص 94). كان من الممكن أن يقوم هوف بعمل أفضل من خلال إعطاء بعض الأمثلة الملموسة من داخل الإدارة الأميركية التي كان جزءا منها.
هناك أيضا بعضٌ من عدم التوازن في الكتاب في هذا الصدد، لأنه حتى لو كان صحيحا ما قيل عن "موثوقية" الأسد، فما مدى الموثوقية التي كانت تتمتع بها الولايات المتحدة نفسها أو يتمتع بها كولين باول نفسه، عندما كانا يكذبان، على سبيل المثل، في شأن التهديد العراقي بأسلحة الدمار الشامل الذي استخدم كذريعة لغزو العراق في 2003 مع مقتل 100 ألف نتيجة لذلك، وما يقرب من عقدين من العنف الدموي وعدم الاستقرار؟
يجادل هوف بأنه لم يعد من الممكن التعامل مع الأسد بعدما شرع في إراقة الدماء مع نشوب الثورة السورية في 2011، وأنه لا يمكن إجراء أي مفاوضات سلام إسرائيلية سورية في المستقبل المنظور حيث "لا توجد مؤشرات الى أن شرعية الحكم سوف تستتب في سوريا قريبا" (ص 145).
أخيرا، كان من المفترض أن يكون بشار الأسد قد فقد شرعيته كرئيس يعمل نيابة عن سوريا وشعبها. لكن ماذا عن شرعية الرؤساء الأميركيين الذين أدت سياساتهم في العالم العربي (وفي أماكن أخرى) إلى مقتل 100 ألف شخص؟ وماذا عن شرعية القادة السياسيين الإسرائيليين المسؤولين عن جرائم حرب خطيرة منذ عقود؟ لذلك، يتبين أن الشرعية السياسية مفهوم نسبي، اعتمادًا على من هو الحليف ومن هو الخصم.
في غضون ذلك، هناك دول مختلفة تعيد بناء العلاقات مع النظام السوري، ومن ثم هي تتخلى عن مواقفها السابقة التي كانت تردد فيها أن الأسد فقد شرعيته كرئيس لسوريا.
وإذا كانت إسرائيل تريد حقًا السلام مع سوريا، لكان بإمكانها بسهولة ترك جميع الأراضي السورية التي احتلتها في1967. وكانت الصفقة ستكون سهلة نسبيا: السلام مقابل الانسحاب الكامل، كما هو مقترح في مبادرة السلام العربية لعام 2002. إن تحقيق السلام مع سوريا سوف يعني بالنسبة إلى إسرائيل تحييد أي تهديد من الجانب السوري، وكان قد تم بالفعل تحييد مصر والأردن عسكريا من خلال اتفاقات السلام مع إسرائيل.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت موشيه ديان قد جادل بأنه إذا أزيلت العجلة الرابعة من السيارة، فإنك لن تستطيع القيادة بعد ذلك. كانت مصر هي تلك العجلة الرابعة في هذا السياق، والتي أزيلت بموجب اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري في 1979، وهي التي ألغت بطبيعتها إمكان شن هجوم مصري سوري مشترك ضد إسرائيل (كما حدث في تشرين الأول/أكتوبر 1973). وكان من شأن عقد اتفاق سلام إسرائيلي- سوري أن يعني إزالة عجلتين من السيارة، مما يجعلها جميعا غير مجدية كسيارة أصلا.
ومن المشكوك فيه ما إذا كانت إسرائيل مستعدة حقًا للانسحاب: فمن الواضح أن إسرائيل فضلت الحفاظ على مرتفعات الجولان على السلام مع سوريا، لكنها لم تمانع في مجاراة جهود هوف الأميركية للسلام، طالما أن هذه الجهود لم تخلُص إلى إلزام إسرائيل في الواقع بالتخلي عن الجولان. وكما في السابق، ظلت قضية التنازل عن المرتفعات "افتراضية" بحتة من الجانب الإسرائيلي. ويبدو أن إسرائيل تريد الحصول على المزيد مقابل السلام، حتى بأكثر مما كانت عليه قبل بداية حرب حزيران/يونيو 1967. وليست إسرائيل هي التي تريد أن تطلب السلام مع سوريا، لكنها تفضل على عكس ذلك أن تكون سوريا هي التي تطلبه، وذلك حتى تصبح الولايات المتحدة الوسيط المحابي لمصالح إسرائيل والولايات المتحدة معا.
وقد لاحظ هوف خلال محادثاته مع الإسرائيليين أن الجزء الأصعب الذي كانوا يخشونه في سبيل التوصل إلى اتفاق مع سوريا هو: "التنازل والإقرار لسوريا بجميع أولوياتها قبل دفع سوريا إلى التنازل والإقرار لإسرائيل بأي شيء ذي قيمة عملية" (ص 98). وعند إرادة التمسك بالمبدأ الذي يقول إنه "لا يتم الاتفاق على أي شيء حتى يتم الاتفاق على كل شيء"، فلا يصح أن يكون التزام هذا المبدأ، مع ذلك، عقبة لا يمكن التغلب عليها.