ولا زالت اللغة التي غرس غينغريتش بذورها تُستخدم حتى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، في أوائل شهر يناير/ كانون الثاني، حثت عضو الكونغرس مارجوري تايلور غرين نواب الحزب الجمهوري على توحيد الصفوف خلف كيفن مكارثي لقتال "العدو" الحقيقي المتمثل في الديمقراطيين. وفي 6 يناير، وصف حاكم كاليفورنيا غافن نيوسوم المحافظين الجمهوريين بمختطفي الحرية في أميركا. ولا تقودنا مثل هذه اللغة إلّا نحو المزيد من الاستقطاب. فقد أوضح استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" للدراسات بأن 21% من الجمهوريين في العام 1994 كانوا يكنون للديمقراطيين "نظرة سلبية للغاية"، أما في العام 2022 فقد وصلت هذه النسبة إلى 62%. وبالمثل، كان 17% من الديمقراطيين يكنون "نظرة سلبية للغاية" للجمهوريين في العام 1994، لكن هذه النسبة ارتفعت في العام 2022 إلى 45%. ووفقاً لاستطلاع أجرته محطة "إن بي سي" في شهر أكتوبر الماضي، قال 80% من الجمهوريين والديمقراطيين بأن تولي الحزب الآخر الدفة في واشنطن "سيمحو أميركا التي عهدناها من الوجود".
حمل مسح أخر لمركز بيو للدراسات ما هو أدهى وأمرّ، فقد أظهر أن 71% من الديمقراطيين لن يقبلوا صداقة أي مؤيد لترامب، في حين سيرفض نصف الجمهوريين تقريباً صداقة أي شخص صوّت لصالح هيلاري كلينتون. كما أوضح مسح أجرته مؤسسة "إيبسوس" أن ثلث الأميركيين يقولون أن الانقسام السياسي قد زاد من صعوبة العلاقات مع الأصدقاء والعائلة. وفيما مضى، كانت الصحف في أعياد الميلاد (الكريسماس) تكتب عن وصفات طهي الديك الرومي، أما في وقتنا الراهن، فإنها تعج بالنصائح عن تجنب المناقشات السياسية مع الأهل والأصدقاء واللجوء للحديث عن موضوعات غير شائكة مثل السفر والرياضة.
فمن أين ينبع كل هذا الخوف والغضب؟ بحسب وجهة نظر الجمهوريين، شقّت التغييرات الاجتماعية صدعاً بين العديد من الأميركيين وحكومتهم. ففي كتاب ذائع الصيت نُشر في العام 2017 تحت عنوان "غرباء داخل أوطانهم"، تقول الكاتبة أرلي هوكشيلد أن معظم أسر الطبقة العاملة يراودهم الأمل في تحقيق الاستقرار المالي. وعلى الرغم من أنهم يدفعون الضرائب للحكومة، إلا أن الكثيرين منهم يرون أنها لا تمنح المزايا والأموال سوى للأقليات كالسود مثلا. لذلك، ترفض الطبقة العاملة من البيض البرامج الحكومية التي يعتقدون بأنها لا تمد لهم يد العون.
وقد عاينت وجهة النظر ذاتها تماماً في ولاية ماين التي أقطنها. فقد أخبرني صاحب شركة صغيرة يعيش بالقرب من منزلي بأنه قاد مجموعة سياسية موالية لدونالد ترامب، ذلك أنه وأصدقاءه يعانون من ثبات أجورهم، ولا يملكون القدرة على شراء منزل أو تعليم أبناءهم في مدارس خاصة للصفوة. كما شدد على مشكلات تفشي إدمان المخدرات والشعور بالعجز والغضب. ووجه الرجل وأصدقاؤه اللوم إلى الحكومة والنخبة السياسية من كلا الحزبين لعجزهم عن حل المشكلات الاقتصادية والإجتماعية. كما أكد على أن الشركات الكبرى تضغط على الحكومة لحماية مصالحها، ولذا فإنه وأصدقاءه يرفضون سطوة رجال المال على المشهد السياسي الأميركي.
وأثناء احتفال محلي في شهر يوليو/ تموز الماضي، أخبرني عامل بناء يرتدي قميصاً يحمل صورة ترامب أن الشركات الكبرى تُؤدي إلى فساد السياسة والحكومة. وأظهر استطلاع للرأي نشرته شركة "غالوب" في يوليو الماضي أن ثقة المواطنين الأميركيين في مؤسسات البلاد، بما في ذلك الكونغرس ووسائل الإعلام والبيت الأبيض والمحكمة العليا، قد وصلت إلى أدنى مستوى لها في تاريخ المنظمة الذي يمتد عبر أربعين عاماً. ووصفت شركة غالوب الوضع بأنه "أزمة حقيقية". وفي خضم هذه الأزمة، تلقى لغة ترامب الثورية ووعوده بتمزيق أوصال النظام القائم آذانا مصغية من قبيل من قابلتهم في مسقط رأسي، فهؤلاء يرفضون التنازلات والحلول الوسط. ويستغل المتطرفون من الجمهوريين، بما في ذلك مجموعة "الطالبان التسعة عشر"، هذا الغضب السائد، ذلك أن رفضهم التوصل لحلول وسط مع المعتدلين من كلا الحزبين يُكسبهم اهتمام وسائل الإعلام ويعود عليهم بالتبرعات المالية لتمويل حملاتهم السياسية.
ويزداد الطين بلة نتيجة لنفوذ حركة المسيحيين القوميين داخل الحزب الجمهوري، وتزداد معها صعوبة التوصل إلى الحلول الوسط. فالحركة لا تكاد تميز بين الهوية المسيحية والهوية الأميركية. ويصر أتباعها على أن أفكارهم الدينية – أو ما يطلقون عليه اسم "القيم العائلية" – ينبغي أن تكون حجز الزاوية الذي تُبنى عليه السياسات الحكومية المتصلة بالإجهاض والتعليم وغيرها من القضايا الاجتماعية. ونظراً لاعتقادهم بأنهم يذودون عن حمى القيم الدينية، فلا مجال مطلقاً بالنسبة إليهم للحلول الوسط. إلّا أنهم أبعد ما يكونون عن تمثيل الأغلبية في السياسة الأميركية، فقد أظهر استطلاع لمركز بيو للأبحاث أُجري في أكتوبر الماضي أن ثلثي الأميركيين يعتقدون أن الكنيسة يجب ألا تتدخل في السياسة، في حين قال 45% من الأميركيين فقط بأن أميركا ينبغي أن تكون أمة مسيحية. لكن بيت القصيد يكمن في قدرة هذا الفصيل على تقرير من يفوز من بين المرشحين في الانتخابات الأولية ليصل بعدها إلى الانتخابات العامة، وذلك ببساطة نتيجة لانقسام البلاد سياسياً بنسب شبه متساوية. فقد فاز العديد من المرشحين في انتخابات نوفمبر الماضي بفضل أصوات ناخبين كان شغلهم الشاغل تأييد المرشح الذي يدعم حق المرأة في اللجوء للإجهاض، تلك المسألة التي تنقسم أميركا بشأنها أكثر من أي وقت مضى.
ليس ذلك فحسب، فهناك شقاق هائل بين الديمقراطيين والجمهوريين على قضايا الهجرة والجرائم والعنصرية. فقد كرر عامل البناء الذي كان يرتدي قميص ترامب الاتهامات التي يرددها الحزب الجمهوري بحق الرئيس بايدن بأنه فتح الباب على مصراعيه أمام المهاجرين من أميركا اللاتينية. وعلى غرار الكثير من الأميركيين، فإنه يخشى أن يستحوذ هؤلاء المهاجرون على وظائف المواطنين الأميركيين. ويزعم الجمهوريون كذلك أن المهاجرين غير الشرعيين الآتين من أميركا اللاتينية يجلبون معهم مخدر الفنتانيل إلى أميركا ويؤدي وجودهم إلى زيادة معدلات الجريمة في المناطق الحضرية. واستغلالاً لمشهد الخوف الذي يكتنف المعسكر الجمهوري في ما يتعلق بالهجرة، اقترحت عضو الكونغرس لورين بوبرت في نوفمبر الماضي أن يُطلق على زميلتها الديمقراطية في الكونغرس إلهان عمر لقب "الإرهابية الانتحارية". وأثارت تعليقات بوبرت موجة من الاحتجاج بين الديمقراطيين، مع ذلك، فإن بوبرت من الضيوف المفضلين لدى شبكات التلفاز الموالية للحزب الجمهوري على غرار قناة "فوكس". وهناك حقيقة أخرى لا يتحدث عنها المحافظون الجمهوريين إلّا همساً، ألا وهي أن الهجرة ستتسبب في جعل فئة الأميركيين البيض من الأقليات بحلول عام 2045.
وعليه، تُبرز الهجرة جلياً نظرتين مختلفين تماماً داخل أميركا. ترغب أولاهما في كبح جماح التغيير في حين ترحب الأخرى به مفتوحة الذراعين. وقد أفنى الرئيس بايدن 36 عاماً بين أروقة مجلس الشيوخ قبل أن يصبح نائباً للرئيس ومن ثم رئيسا للبلاد. ولكن حتى هذا المفاوض المخضرم لا يستطيع أن يجد أرضية مشتركة واضحة المعالم بين الديمقراطيين والجمهوريين في ما يتعلق بالهجرة.
وفي محاولة لتهدئة مخاوف الجمهوريين، تعهد بايدن بتعزيز السيطرة على الحدود وترحيل من يدخل البلاد دخولا غير شرعي. ثم أذعن بعدها للمعسكر اليساري داخل حزبه الديمقراطي، متعهداّ بزيادة عدد الأشخاص الذين يمكنهم الهجرة شرعيا. ولكن فوزه في هذه المعركة يبدو مستحيلًا، فهو لن يستطيع خطب ود الجمهوريين الذين لن يقبلوا بالمزيد من المهاجرين، فيما سيكافح اليساريون الديمقراطيون ضد ترحيل طالبي اللجوء. ومن الأهمية أن نتنبه إلى تأثير المعسكر اليساري داخل الحزب الديمقراطي على مجريات الانتخابات الأولية داخل الحزب في العام 2024، تماماً على غرار المسيحيين القوميين في الحزب الجمهوري.
وكما هو الحال بالنسبة للهجرة، فلا سبيل للوصول إلى حل وسط في مسألتي الجريمة والحقوق المدنية، حيث يركز الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي على ضرب الشرطة في العديد من المدن الأميركية حقوق المواطنين من الأقليات عرض الحائط، حتى وصل بها الأمر في بعض الأحيان إلى قتل الأبرياء. وقد دفع ذلك اليساريين إلى المطالبة بتقليص موازنات الشرطة في بعض المدن، من بينها سياتل ومينيابولس. كما احتفوا بمظاهرات حركة "حياة السود مهمة" في طول البلاد وعرضها ولم ينتقدوا التظاهرات التي عطلت المرور وشلت حركة الأعمال في بعض المدن. وعلى الجانب الأخر، يشدد الحزب الجمهوري على مشكلة الجريمة، ويستغل مخاوف المواطنين من إلغاء الديمقراطيين لقوات الشرطة. إضافة الى ذلك، يشعر الكثير من الأميركيين البيض بامتعاض من تعبير" حياة السود مهمة"، معللين ذلك بأن التعبير ينفي قيمة حياة البيض. وقد وصل الأمر إلى أن صرنا نسمع شعارات مضادة تهتف بعبارة "حياة الجميع مهمة".
ولطالما كانت مسألة العرق من المسائل الشائكة منذ أبصرت أميركا النور، حتى أن بعض الأبطال الأميركيين مثل جورج واشنطن وتوماس جيفرسون قد لُطخت أيديهم هم أيضاً بوصمة الرق. لذا، تقوم بعض المدن الليبرالية التي يتولى زمام الأمور فيها زعماء من الحزب الديمقراطي بإزالة تماثيل توماس جيفرسون بسبب امتلاكه للعبيد واغتصابه لامرأة سوداء. ويقول ناشطون بأنه لا مناص من تعميق فهم مسألة العنصرية في أميركا ومناقشتها في المدارس صراحة حتى يُكتب للبلاد حل هذه المعضلة. يُقابل العديد من الأميركيين المحافظين هذه الفكرة بالرفض، معللين ذلك بخوفهم من أن تؤدي مناقشة المسألة في المدارس الإعدادية والثانوية إلى الإضرار بالنزعة الوطنية لدى الطلاب. وقد علق الرئيس ترامب على إزالة تماثيل توماس جيفرسون قائلاً بان "اليسار المتطرف قد جن جنونه" وبأن الضغط من أجل تدريس مسألة العنصرية في المجتمع الأميركي سيغرز في نفوس الأطفال فكرة أن "أميركا قد قامت على الاضطهاد وليس على الحرية". ومن جديد، يقع الصدام بين وجهتي النظر السائدتين في أميركا.