الرقاقات الميكروية على خريطة الصراع الجيوسياسيhttps://www.majalla.com/node/285041/%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%82%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A
يصعب في عصرنا هذا أن نتخيل عالمنا وقد خلا من الرقاقات الميكروية (microchips)، فهي تكمن في قلب الأجهزة التي نستخدمها للعمل والتنقل والتريض والترفيه، من السيارات والهواتف الذكية إلى أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي والروبوتات الصناعية إلى مراكز البيانات. هي تقريبًا كالأوكسيجين الذي نتنفسه إذ تنتشر في كل مكان. ويُقدَّر أن عام 2021 شهد صنع 1,15 تريليون رقاقة ميكروية، ما عزز قيمة قطاعها إلى أكثر من نصف تريليون دولار وهو رقم سيزيد إلى ثلاثة أرباع تريليون دولار خلال خمسة أعوام. تتميز الرقاقات الميكروية بسرعة تطورها، فهي، بين أحد أجيالها والجيل التالي، تكتسب وظائف جديدة وتتيح تصنيع منتجات جديدة وتغير الطبائع المميزة لقطاعات اقتصادية كثيرة.
للرقاقة الميكروية أسماء كثيرة، منها الاسم المذكور، إلى جانب الرقاقة (chip) والرقاقة الكومبيوترية (computer chip) والدارة المتكاملة (integrated circuit)، وهي في الواقع مجموعة من الدارات الكهربائية المنصوبة على قطعة مسطحة صغيرة جدًّا من السيليكون (من هنا اسم وادي السيليكون في ولاية كاليفورنيا الأميركية حيث تقوم أبرز الشركات التكنولوجية في العالم)، وعلى الرقاقة، تعمل ترانزستورات صغيرة جدًّا كمفاتيح كهربائية منمنمة يمكنها تشغيل التيار الكهربائي أو وقفه. ويمكن ترتيب الترانزستورات على الرقاقة بإضافة مواد وإزالتها حتى تتشكل شبكة من الأشكال المترابطة.
لا يسعنا إذ ندخل في تفاصيل عمل الرقاقات الميكروية ألا نتحدث قليلًا عن السيليكون، المادة المفضلة في هذا القطاع، فعلى خلاف المعادن "الموصلة" للكهرباء المستخدمة في مجالات أخرى، هو "شبه موصل" يمكن التحكم بقدراته التوصيلية من خلال إضافة مواد أخرى إليه، مثل الفوسفور. والسيليكون من المواد الأولية الرخيصة، فهو يُستخرَج من نوع من الرمل اسمه رمل السيليكا، الموجود في كل شاطئ تقريبًا، ما يجعل السيليكون ثاني أكثر العناصر توافرًا على الأرض بعد الأوكسيجين.
تضم رقاقة ميكروية بحجم ظفر إصبع اليد البشرية مليارات الترانزستورات، وتُقَاس خصائص الرقاقة بالنانومتر (جزء من مليار من المتر؛ من هنا تسمية تكنولوجيا النانو). وفي حين يبلغ قطر الكرية الحمراء البشرية سبعة آلاف نانومتر ومتوسط قطر الفيروسات 14 نانومترًا، توصلت أحدث تقنيات الرقاقات الميكروية إلى وضع إضافات بقطر 10 نانومترات على الرقاقة. وكلما صغر حجم الإضافات، ازداد عددها في الرقاقة الواحدة وتعزز أداء الرقاقة وكثرت وظائفها.
وتنقسم الرقاقات فئتين عامتين، "المنطقية"، وهي بمثابة الدماغ في الأجهزة الإلكترونية إذ تعالج المعلومات لتحقيق مهمة، وتشمل وحدات المعالجة المركزية (CPUs) في الكومبيوترات ووحدات معالجة الرسوم (GPUs) ذات المهام البصرية ووحدات المعالجة العصبية (NPUs) المخصصة للتعلم الآلي، والثانية، "الخاصة بالذاكرة"، التي تخزّن المعلومات، وهي من نوعين، أحدهما "ذاكرة الوصول العشوائي الديناميكي"، أو DRAM يحفظ المعلومات طالما الجهاز يعمل والثاني "فلاشة ناند"، أو NAND Flash يقوم بالأمر نفسه حتى ولو أُطفئ الجهاز.
اقتصاديات الرقاقات
تُعَدّ شركة "إنتل" الأميركية أبرز الجهات المطوّرة للرقاقات الميكروية، ولا سيما لصالح قطاعي الكومبيوترات الشخصية وخوادم (servers) الشركات، وشكلت خدماتها في القطاع الأول 51 في المئة من عوائدها عام 2021، في حين ضخّ ما وفّرته للقطاع الثاني 33 في المئة من هذه العوائد خلال الفترة نفسها. أما باقي العوائد، فجاءت من الحلول الخاصة بإنترنت الأشياء، والبيع بالتجزئة، والصناعة، والرعاية الصحية، ومنتجات الذاكرة والتخزين، وتكنولوجيا القيادة الذاتية، والرقاقات القابلة للبرمجة. أما "الشركة التايوانية المحدودة لتصنيع أشباه الموصلات" (TSMC) فهي أكبر مصنّع للرقاقات الميكروية في العالم، وهي تنتج هذه الرقاقات وفق طلبات من شركات عميلة، بل إن كثيرًا من شركات تصنيع الرقاقات حول العالم تكلفها إنتاج ما يلزمها من هذه المنتجات بدلًا من صنعها بنفسها. تضم قائمة الشركات الفاعلة في قطاع الرقاقات الميكروية "كوالكوم" الأميركية التي تصمم هذه المنتجات وتسوّقها في قطاع الاتصالات اللاسلكية وخدماتها. وتُعَدّ مجموعة رقاقاتها المسماة "سناب دراغون" حاضرة في كثير من أجهزة الاتصالات المحمولة.
بالنسبة إلى البلدان، تصنع الصين 25 في المئة من الرقاقات الميكروية المنتجة في العالم، تليها تايوان بنسبة 21 في المئة، ثم كوريا الجنوبية بنسبة 19 في المئة. أما في الولايات المتحدة، مهد الابتكار، فانهارت الحصة من 37 في المئة عام 1990 إلى 12 في المئة اليوم، لكن بعد تعطل سلاسل إمداد السلع والبضائع كلها تقريبًا، ولا سيما في مجال الرقاقات الميكروية، بسبب القيود والإغلاقات التي فُرِضت في ظل جائحة كوفيد-19 المستمرة منذ خريف 2019 وبسبب التداعيات الاقتصادية عمومًا والتجارية خصوصًا للغزو الروسي أوكرانيا المتواصل منذ شباط/فبراير 2022، أصدرت واشنطن قوانين كثيرة، يعنينا منها هنا القانون الأميركي للرقاقات والعلوم، الذي خصص 280 مليار دولار إلى مشاريع وأولويات كثيرة، منها 52 مليارًا لإنتاج الرقاقات محليًّا. ويستهدف التشريع "الاستحواذ على المستقبل خلال العقود المقبلة"، وفق الرئيس جو بايدن، و"نقل سلسلة إمداد الرقاقات من الصين إلى ميشيغان"، وفق حاكمة الولاية المذكورة غريتشن ويتمر.
لم تعزز الحكومة الفيديرالية الأميركية استثماراتها في البحث والتطوير كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي منذ سنوات، خلافًا لحكومات كثيرة تريد لبلدانها تبوؤ أدوار أوسع في الاقتصاد العالمي. ومنذ انبلاج فجر العولمة إثر سقوط جدار برلين عام 1989 وما تلاه من تحلّل للكتلة الاشتراكية، مالت الشركات الأميركية إلى الاكتفاء بتصميم الرقاقات وتكليف شركات خارج بلادها بتصنيعها توفيرًا للمال. ومع ترنح العولمة تحت ضربات الإرهاب والأنظمة القمعية والجائحة وتطورات مزعزعة للنظام العالمي قد لا يكون غزو أوكرانيا آخرها، يندرج القانون الأميركي في إطار محاولات الحكومات، ولا سيما في البلدان الغنية، إعادة سلاسل الإمداد إلى الوطن. لكن اللافت أن "الشركة التايوانية المحدودة لتصنيع أشباه الموصلات"، العاملة في بلاد مهددة بغزو صيني، تستثمر عشرات مليارات الدولارات سنويًّا في مشاريعها (استثمرت 44 مليارًا منذ بداية عام 2022)، ما يجعل الـ52 مليارًا الأميركية مبلغًا لا يحمل وعدًا كبيرًا.
جوانب جيوسياسية
تتقاسم الولايات المتحدة والصين نصف سوق استهلاك الرقاقات الميكروية (25 و24 في المئة على التوالي) ويليهما الاتحاد الأوروبي (20 في المئة) فاليابان (ستة في المئة). ولا يقتصر التفوق الآسيوي على الولايات المتحدة في مضمار تصنيع الرقاقات بل يشمل أيضًا التنويع في المنتجات. فشركتا "سامسونغ" و"إس كاي هاينكس" الكوريتان الجنوبيتان تتفوقان في تصنيع رقاقات الذاكرة، على الرغم من حلول "ميكرون" الأميركية ثالثة في هذا المجال، في حين تتفوق "كيوكسيا" اليابانية في إنتاج رقاقات الذاكرة الفلاشية. أما "الشركة التايوانية المحدودة لتصنيع أشباه الموصلات" فهي رائدة عالميًّا في صنع الرقاقات المنطقية. وتعزز الصين حضورها في سوق الرقاقات المنطقية ورقاقات الذاكرة، في حين لا يمكن إهمال الدور الذي تؤديه كل من سنغافورة واليابان في إنتاج المواد التي تدخل في صنع الرقاقات. أما الولايات المتحدة التي انحسر دورها الإنتاجي فلا تزال البلاد الرائدة بلا منازع في تصميم الرقاقات.
وهناك عنصر "التوضيب"، أي جمع عناصر الرقاقات الميكروية بواسطة ميكروسكوبات، وهي عملية كانت قبل نصف قرن تجري يدويًّا، ما دفع معظم شركات الرقاقات في الغرب إلى تحويلها إلى الصين نفسها وجنوب شرق آسيا توفيرًا لتكاليف اليد العاملة. ومع تقلص العمل اليدوي، من دون اختفائه تمامًا، قد يصعب على الولايات المتحدة إعادة هذا العمل إلى الوطن، ولا سيما أن القانون الأميركي للرقاقات والعلوم لا يخصص لهذا الشق من الإنتاج أكثر من 2,5 مليار دولار. لذلك من المرجح أن يعزز القانون الريادة الأميركية في التصميم أولًا إذ هو يستهدف في شكل رئيسي زيادة الإنفاق على البحث والتطوير.
في عودة إلى الإقفال والتأخير في الإنتاج الذي تسببت به الجائحة، ازداد الطلب على الرقاقات الميكروية المخصصة للكومبيوترات المحمولة الأصغر حجمًا، إلى جانب أدوات منزلية كهربائية كثيرة وذلك في ضوء طفرة التحول إلى العمل من المنزل بسبب الضوابط والقيود التي فرضتها السلطات لمكافحة الجائحة. ولاقت الشركات المنتجة للرقاقات صعوبات في التحول إلى إنتاج الرقاقات المطلوبة. ومع انحسار الجائحة وعودة العمل من المكتب تدريجيًّا، قد يهوي الطلب على هذه الرقاقات "المنزلية" وتعاني الشركات التي تمكنت من التحول إلى إنتاجها من فوائض يصعب تصريفها. وهنا تكمن معضلة الشركات العاملة في البلدان المتقدمة، ولا سيما الولايات المتحدة: هل تتخلى بسبب الفوائض عن إعادة الإنتاج إلى الوطن؟ إن غداً لناظره قريب.
الأمن القومي
إنه إذًا سباق تسلح تكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، الصين التي تهدد باجتياح تايوان، ناهيك بتهديد كوريا الشمالية باجتياح كوريا الجنوبية، وقد شجع على هذه التهديدات غزو روسيا أوكرانيا. يتناول سباق التسلح هذا أشياء كثيرة تتراوح بين الهواتف الذكية والبنية التحتية للاتصالات الخليوية ووسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، والآن وصل السباق إلى المكوّن الأساسي لهذا كله – الرقاقة الميكروية، والشركات التكنولوجية الأميركية العملاقة – "أبل" و"غوغل" و"مايكروسوفت" – تعتمد بقوة على الصين في صنع أجهزتها ومكوّنات هذه الأجهزة.
يحض مسؤولون أميركيون، مثل وزيرة الخزانة جانيت يلين على نقل التلزيمات الخاصة بالشركات الأميركية، في مختلف المجالات، من الصين إلى بلدان صديقة، مثل كوريا الجنوبية واليابان. وليس الأوروبيون غائبين عن التحدي، فقد أصدر الاتحاد الأوروبي العام الماضي قانونًا شبيهًا بالقانون الأميركي، يخصص 43 مليار يورو لمضاعفة حصة الاتحاد من الإنتاج العالمي للرقاقات من 10 إلى 20 في المئة في حلول سنة 2030. وتعزز الصين قطاعها بخطة خمسية أعلنتها العام الماضي كلفتها 155 مليار دولار.
تصنع الصين 25 في المئة من الرقاقات الميكروية المنتجة في العالم، تليها تايوان بنسبة 21 في المئة، ثم كوريا الجنوبية بنسبة 19 في المئة. أما في الولايات المتحدة، فانهارت الحصة من 37 في المئة عام 1990 إلى 12 في المئة اليوم.
سيحدد سباق التسلح التكنولوجي من سيهيمن على الاقتصاد العالمي في المستقبل القريب. وفي قلبه تقع جزيرة تايوان. عندما زارت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي الجزيرة العام الماضي مع وفد سياسي من بلادها، جددت بكين تهديدها باجتياح تايوان التي تقول إنها جزء من الصين لكنها تحكم نفسها بنفسها وفق نظام ديموقراطي يغيظ حكم الحزب الواحد في البر الصيني، الحزب الشيوعي المعتنق الرأسمالية منذ عام 1978، فردّ رئيس مجلس الإدارة في "الشركة التايوانية المحدودة لتصنيع أشباه الموصلات"، مارك ليو، بالقول: "في حالة استخدام القوة العسكرية أو القيام بغزو، ستصبح مصانع الشركة غير قابلة للتشغيل، فهي مرافق تصنيع معقدة تعتمد على التواصل في الوقت الحقيقي مع العالم الخارجي – مع أوروبا واليابان والولايات المتحدة".
لا شك في أن العولمة في أزمة، ولم تصح مقولة المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما بنهاية التاريخ حين سقط جدار برلين. وربما تصح مقولة مواطنه المفكر صموئيل هنتنغتون الصادرة في الوقت نفسه عن صراع الحضارات بعد انتفاء الصراع الرأسمالي الشيوعي لكن بصيغة مختلفة: صراع الهمجيات. فالإرهاب، سواء مارسته دول أو تنظيمات، والغزو، كغزو أوكرانيا، والتهديد بالعدوان، ناهيك بعدم تسوية آخر استعمار، الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين، كلها همجيات تجعل العولمة وما رافقها من أفكار – التجارة الحرة والانفتاح الاقتصادي – آمالًا لن يكون تحقيقها بالسهولة المرجوة. وفي حين تحاول البلدان الغنية إعادة الصناعات إلى أراضيها بعدما كانت لزّمتها إلى بلدان أخرى، تشمل بلدانًا انقلبت عدوة، ومنها صناعة الرقاقات الميكروية، لا تزال البلدان الأفقر ضحية ما قبل العولمة وأثناءها وما بعدها.
لمحة من التاريخ
تعود ريادة الرقاقة الميكروية إلى جاك كيلبي وروبرت نويس في الولايات المتحدة، فعام 1959، نال الأول، الفيزيائي في شركة "تكساس إنسترومنتس" براءة اختراع لإبداعه دارات إلكترونية منمنمة، في حين حصل الثاني، الفيزيائي في شركة "فيرتشايلد سيميكونداكتر كوربوريشن" الذي بنى على اختراع العملية السطحية (planar process) لتصنيع الرقاقات من قبل فيزيائي آخر في الشركة نفسها يُدعَى جان هورني، على وثيقة مماثلة لابتكاره رقاقة ميكروية فوق قاعدة سيليكونية. ومع انطلاق صناعة الرقاقات، نشبت حرب براءات بين الشركتين ما لبثت أن سُوِّيت عام 1966 ببراءات مشتركة. ونال كيلبي عام 2000 جائزة نوبل في الفيزياء تقديرًا لاختراعه، ولم ينس في الخطاب الذي ألقاه في المناسبة ذكر نويس الذي كان قد تُوفِّي قبل ذلك بـ 10 سنوات.
يتلخص الاختراق الذي مثله الاختراع في القدرة على تصغير أحجام الأجهزة الإلكترونية، وليست المقارنة بين أصغر كومبيوتر محمول اليوم وأصغر الكومبيوترات الأولى، التي كان كل منها يملأ غرفة، سوى مؤشر بسيط إلى هذا التطور. ومنذ عام 1979، بدأت وحدات المعالجة المركزية الكومبيوترية تُوضَع على رقاقات ميكروية، فانطلقت أجهزة المعالجة الميكروية ومعها ثورة الكومبيوتر. وتمدد انتشار الرقاقات ليشمل المعدات العلمية، والأسلحة، وأجهزة الترفيه، وأجهزة التواصل، والمركبات، وغيرها كثير، إلى جانب الكومبيوترات. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت تكاليف الكومبيوترات، وبالتالي أسعارها، تراجعات متتالية بفضل تطور الرقاقات الميكروية.
استخدمت الرقاقة عام 1962 في الصاروخ الباليستي الأميركي العابر القارات وذي الرأس النووي الذي عُرِف باسم "مينيت مان" وكان دورها تشغيل الكومبيوتر الذي يوجه الصاروخ.
قبل الرقاقة، كانت الأجهزة الإلكترونية تعتمد على أنبوب الفراغ الثلاثي القطب (three-electrode vacuum tube) الذي اخترعه الأميركي لي دي فورست عام 1907 وسمح بتضخيم التغيرات في أي تيار باستخدام الإشارة المطلوب تضخيمها لضبط تدفق تيار أقوى. وأدى الاختراع إلى اختراعات بارزة، مثل الراديو والتلفزيون والكومبيوترات الكهربائية، لكنه كان هشًّا وضخمًا نسبيًّا ومتطلبًا كثيرًا من الطاقة ومكلفًا وسريع العطب. وعام 1947، اخترع جون باردين ووالتر براتاين وويليام شوكلي، الفيزيائيون في شركة "بل لابس"، الترانزستور الذي أدى وظائف أنبوب الفراغ الثلاثي القطب من دون مشاكله، على الرغم من أنه كان ضخمًا وهشًّا نسبيًّا. وجاءت الرقاقة الميكروية بعد 11 سنة ترافقها الثورة التي أحدثتها.
من المحطات التاريخية التي عرفتها الرقاقة استخدامها عام 1962 في الصاروخ الباليستي الأميركي العابر القارات وذي الرأس النووي الذي عُرِف باسم "مينيت مان". وكان دورها تشغيل الكومبيوتر الذي يوجه الصاروخ. وموّلت الحكومة الأميركية تصنيع الرقاقات الميكروية لصالح برنامج غزو القمر الذي عُرِف باسم "أبولو". وتمكن البرنامج الذي أدارته الوكالة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) من إيصال أول بعثة بشرية إلى القمر عام 1969. وما لبث تطور الرقاقة أن تسارع بفضل عوائدها المجزية وفي ضوء رغبة المستهلكين في أجهزة إلكترونية تتزايد تقدمًا وخفة وزن وقابلية للحمل وتكون ذات أسعار يمكن تحملها.
في القرن الحادي والعشرين، تفوق ذاكرة الكومبيوتر المكتبي المتوسط مليون ضعف ذاكرة كومبيوترات "أبولو" ويجري الجهاز الحسابات بوتيرة أسرع بآلاف المرات. فمنذ 40 سنة، يتضاعف عدد المكوّنات الإلكترونية التي يمكن ضمّها إلى رقاقة ميكروية مرتين كل بضع سنين. ويتوقع علماء كثر أن تتوقف القدرة على نمنمة الرقاقة بعد بضع سنين، فلكل شيء حد، لكن اليوم لا يلوح في الأفق بديل للرقاقة في مقدوره معاودة مسيرة النمنمة. هذا ويستلزم إنتاج الرقاقات الميكروية مصانع ضخمة تكلف مليارات الدولارات وتتطلب تحديثات كل بضع سنين لمواكبة تطور هذه التكنولوجيا. وتظل عملية صنع الرقاقة، في الأساس، هي نفسها منذ عقود: "قصف" قطعة السيليكون بذرّات من عناصر مختلفة.