فيما العالم في حالة حرب، تحولت أزمة المناخ إلى وباءٍ يجر معه الويلات الاقتصادية. في عالم لا يستند إلى الواقع بقدر ما يتسم بالسعي الى الاستقطاب والشعبوية، أحدثت أزمة المناخ انقساما في الآراء نجم عنه اضطرابا اقتصاديا لم نشهده منذ نحو قرن. وفي وقت تتزامن أخبار حالات الجفاف في أوروبا وأميركا الشمالية، مع تلك عن الدمار الذي أحدثه الفيضان في ثلث باكستان، يتعاظم التضخم وندرة الموارد وتدابير الحماية الاجتماعية والإقتصادية، كل هذا ولد مزيجا مهلكا على جبهات عدة تستدعي ضرورة أن يعيد العالم ضبط شؤونه.
في عالم تستعر فيه الحروب الاقتصادية وترتفع تكاليف الوقود، لم يسبق لأمننا المتعلق بالطاقة والغذاء والمياه التعرض لخطر مماثل من قبل حيث يفضي مجالان من هذه المجالات إلى ضغوط تضخمية، وتدفع السياسات النقدية المصارف المركزية الى إتخاذ إجراءات قاسية في محاولة لإعادة الأمور إلى نصابها، وهذه الإجراءات نفسها تعيد إرساء آثار التغير المناخي على حياتنا اليومية. مثلا، شهدت المملكة المتحدة ارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 9 في المئة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2022. وقدرت "سيتي غروب"، في العام المنصرم، أن يصل مؤشر أسعار المستهلكين (CPI) الى نسبة 18 في المئة ، ومؤشر أسعار التجزئة (PRI) الى 21 في المئة في الربع الأول من 2023. وليست الولايات المتحدة ببعيدة عن تلك المؤشرات، لكنها تتمتع بشيء من العمل الحكومي الفاعل على الأقل، ولا سيما التشريعات التي دفع إليها بايدن، المتمثلة بقانون خفض التضخم (وهذا إنجاز في حد ذاته) سيساعد في التغلب على التضخم وخفضه على المدى القصير.
مع هذه الضغوط التضخمية التصاعدية المدفوعة بزيادة تكاليف الطاقة والغذاء، إضافة الى تداعيات وباء كوفيد-19، لا يمكن تجاهل الإشارات التحذيرية لتأثير تغير المناخ لفترة طويلة جدًا.
الأخطار المتزايدة لانعدام الأمن الغذائي
على مدى سنوات، كانت هناك تحذيرات من تأثيرات تغير المناخ في أمننا الغذائي. وحتى قبل أن يزيد تفشي كوفيد-19 والإجراءات الإقتصادية الأخيرة الأمور سوءا، كانت الهيئات الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) قد نبهت الى أن آثار تغير المناخ ستكون سلبية وغير متوقعة، وستكون موزعة بشكل غير عادل على الصعيد العالمي. وكانت محاصيل الذرة والقمح العالمية قد تلقت ضربة مناخية قبل أن تنال عواقب الحرب في أوكرانيا من مستويات المخزون العالمي. ومع استهلاك ما يقرب من 950 مليون طن متري من الذرة ونحو 700 مليون طن متري من القمح سنويًا على مستوى العالم، يمثل استهلاك القمح وحده أكثر من 20 في المئة من السعرات الحرارية والبروتينات، بحسب سلسلة "الأمن الغذائي وتغير المناخ" لهيئة "التأثير الأكاديمي للأمم المتحدة" (UNAI). إلا أنه يُتوقع أن يحصل تدهور كبير في هذين المحصولين الرئيسين بفعل فقدان الأراضي الزراعية المناسبة بسبب تغير المناخ، وعدم القدرة على التنبؤ بالطقس، مترافقة مع ضغوط غير حيوية للحرارة والمياه وضغوط حيوية مثل الحشرات. وقد جاوزت حدَّها الانخفاضات المتوقعة في أميركا الجنوبية بنسبة 9-19 في المئة من إنتاج الذرة في حلول عام 2050، وفاقها في ذلك الانخفاض المرتقب بنسبة 33 في المئة في بلدان مثل تنزانيا. أما الانخفاض المتوقع في إنتاج القمح فهو الأكثر حدة بنسبة 44-49 في المئة في مناطق مثل جنوب آسيا.
بالطبع، يطغى على هذه التوقعات واقع الدور المحوري الذي تلعبه كل من أوكرانيا وروسيا في توفير المواد الغذائية الأساسية على مستوى العالم، وهي كالآتي: 30 في المئة من القمح، 60 في المئة من زيت دوّار الشمس، وما يقرب من خمس الذرة، وفقا لـتقرير "التأثير العالمي للحرب في أوكرانيا على أنظمة الغذاء والطاقة والتمويل" الذي نشرته الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 2022. كما أدت درجات الحرارة المرتفعة وانخفاض مواسم هطول الأمطار إلى جانب نقص إمدادات الأسمدة من هاتين الدولتين، وتغير المناخ، إلى ضرر كبير في كل أنحاء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، على خلفية ضعف المحاصيل في البرازيل في وقت سابق من العام المنصرم.