لندن: عندما يتوجه عطية (يحيى الفخراني) تاركاً القاهرة إلى الريف لكي يبيع «حتّة» الأرض التي ورثها من والده، يعلق. كمال (فريد شوقي) يشتري منه الأرض ثم يغريه بالبقاء. يتردد عطية لأنه ترك شقته وعمله ومضطر للعودة، لكن هناك تأثيران يتغلّبان على تردده: ابنه مالك الأرض خوخة (ليلى علوي) وطعام الفلاحين وكرم ضيافتهم.
عطية، الذي يحتاج لتخفيف وزنه، يضرب المدينة بعرض الحائط ويقبل على ما يوفره الريف له من سعادة وانشراح وزواج قادم وأكل وفير.
هذه هي حبكة فيلم المخرج الراحل محمد خان.
عطية ليس وحده في السينما الذي يقرر مغادرة المدينة إلى الريف.
في فيلم جون هيوستن The Asphalt Jungle نجد الممثل سترلينغ هايدن يحلم بمزرعة جياد يترك مدينة لوس أنجليس بسببها. هو مستعد بعد آخر عملية سرقة شارك بها. كان تلقّى رصاصة سكنت جسده وها هو يقود سيارته لما وراء حدود المدينة وهو بين الحياة والموت. في طريقه يجد مزرعة فيها عدّة جياد ترعى. يوقف السيارة ويخرج منها صوب تلك الجياد ثم يهوي أرضاً وسطها ويموت. تحيط به كما لو أنها الملائكة.
المدينة غير الريف. متسخة. مهمومة. أناسها يركضون لاهثين في سعيهم لتحقيق ذواتهم ومعظمهم لا يصل. جو بَك (جون ڤويت) لا يعلم شيئاً عن هذا الوحش المسمّى نيويورك. يترك تكساس حالماً بالمعجزات لكنه يتحوّل في شوارع المدينة إلى بائع متعة لمن يرغب. هكذا تم تقديمه في Midnght Cowboy لجون شليسنجر. أفلام عديدة دارت حول هذا الموضوع على نحو أو آخر، درامياً، كوميدياً، بوليسيا وتاريخياً.
الحال هو أنه إما أنك تارك المدينة للريف وإما تارك الريف للمدينة. لا تستطيع أن تتوقف في منتصف الطريق لأنه لا خيار ثالث في هذا الشأن.
نموذج شعبي
السينما العربية (المصرية خصوصاً) شهدت العديد من الأفلام التي دارت حول هذا المحور. الهجرة صعبة لكن فقط في الأفلام الخفيفة التي تريد أن تتسلى وتُسلي، نجدها سهلة ومدعاة لمواقف هزلية مثل «بدوية في باريس» لمحمد سلمان (لبنان- 1964) أو «صعيدي في الجامعة الأميركية» لسعيد حامد (مصر، 1998).
حتى وقت قريب، كانت هناك نيّة لتصوير أهل الريف كما لو كانوا أغبياء لا يستطيعون مواجهة خبث أهل المدينة. ومع أن هذا يُدين أهل المدينة أكثر مما يُدين أهل الريف إلا أن النكت كانت دوماً على الصعيدي والريفي والبدوي وسواهم.
على أن الواقع مختلف ويتبدى اختلافه حال يلجأ المخرج إلى الأمانة في المعالجة.
في هذا الشأن، يمكن ملاحظة وصول شكري سرحان القادم من الريف ليواصل الدراسة في القاهرة في فيلم صلاح أبو سيف «شباب امرأة». ما إن يحط قدمه في الحارة حتى تختطفه تحية كاريوكا التي وجدت فيه ما يشبع نهمها للرجل القوي.
هو بالطبع ساذج ومن السهل أن يقع تحت سيطرة امرأة وهذا ما يحدث معه بعد حين. في نهاية الفيلم، وبعد تدميره، نجد صعيديا آخر (محمود المليجي) يصل الحارة ذاتها على النحو الذي سبقه إليها شكري سرحان.
في فيلم آخر لصلاح أبو سيف عنوانه «الفتوة» (1957) يصل الصعيدي فريد شوقي إلى القاهرة بحثاً عن عمل. هو على «نيّاته» كما يقولون ومن السهل إيقاعه في شرك الأشرار- لكن هذا في البداية فقط. لاحقاً يصبح الحاكم بأمره في الحارة. هذا الانتصار الرمزي الذي يرفع من قيمة الصعيدي، يتوقف فجأة عندما يتحوّل الصعيدي لممارسة التعسف والبطش ذاته الذي كان المعلم أبو زيد (زكي رستم) يمارسه على الجميع.
حكاية ثلاث مدن
للهجرة والحلم بها مضارب ومشارب عديدة. ونجدها في عدّة أفلام حديثة تم تحقيقها في السنوات العشر الأخيرة. من بين هذه الأفلام «ستموت في العشرين» للمخرج أمجد أبو العلا (2018).
في هذا الفيلم نتعرّف على الفتى مزمّل الذي كان يحلم دوماً يترك الريف السوداني الذي يعيش فيه ويرحل إلى المدينة الكبيرة. حياته كانت منهكة منذ أن وُلد وجاءت به والدته إلى الشيخ ليبارك مولده، فإذا به يخبرها بأن طفلها ذاك سيموت في العشرين من العمر.
دارت كل أحداث هذا الفيلم في قرية صحراوية بعيدة عن مضارب الحياة المدنية. عناية المخرج كانت في متابعة هذا الفتى وقد وصل إلى العشرين من العمر لإثبات أن النبوءة في شأن الأعمار لم تُمنح للبشر وأن مزمل ووالدته عاشا حياة صعبة تبعاً لتلك النبوءة. في المشهد الأخير نراه يركض وراء الحافلة المارة على الطريق الرئيسي الذي يربط القرية بالعالم… يركض وراءها ولا يصل ويبقى مستقبله معلّقاً.
في فيلم آخر لمحمد خان هو «شقة مصر الجديدة» (2007) تصل نجوى (غادة عادل) إلى القاهرة على أن تغادرها مساء اليوم ذاته. غايتها البحث عن المدرّسة التي علّمتها الموسيقى. تجد أن الشقة التي كانت المدرّسة تعيش فيها في مصر الجديدة قد آلت إلى الشاب يحيى (خالد أبو النجا). نجوى ذات ثقة بأنها لا تريد ولا تستطيع أن ترتبط بعلاقة مع هذا الشاب ولا حتى مع مدينة القاهرة. تتركها وتعود.
على أن المدينة كضياع شامل موجودة في العديد من الأفلام العربية (والمصرية تحديداً). خذ، على سبيل المثال، «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد. فيلم عن مخرج يحاول صنع فيلم تسجيلي عن والدته وعن مدينة القاهرة، ولا بأس إذا ما احتوى الفيلم على حكايات مدينتين أخريين هما بيروت وبغداد. في الوقت ذاته، هذا الفيلم الذي في الفيلم، المشروع الذي نراه من خلال عيني بطله خالد (خالد عبدالله)، هو الفيلم ذاته الذي أمضى المخرج تامر السعيد سنواته الخمس الأخيرة وهو يحاول تحقيقه. إنه سيرة شخصية كون المخرج داخل الفيلم يعكس المخرج خارجه. وهو أيضاً تسجيل مركّـب ضمن الرواية في تفعيلة من الصعب إتقانها.
تلتقط الكاميرا صور شوارع القاهرة المزدحمة وفقرائها ومشاهد لهدم المباني القديمة وحكايات الناس العادية وسائق التاكسي الغاضب وإيقاع الحياة وهو يغلي تحت ما يبدو الهدوء الذي يسبق العاصفة. تكتفي الكاميرا بالنظرة الهادئة والإيقاع المتمهل الذي يرصد تلك الأنفس التي لا تلهث. الواقع المعني يجثم عليها. لكن الأبعاد تتوالى واضحة. القاهرة، كما يراها المخرج ويعرضها الفيلم، تعيش لحظات حاسمة في العام 2009 حتى من قبل أن نرى أول مظاهرة أو أول رجال شرطة الأمن.
بيروت وبغداد لا يختلفان عن بعضهما ولا عن القاهرة ذاتها في أكثر من وجه. الثلاث عواصم تئن تحت ضغوط الحياة. لكن إذا كانت المدينة نموذجاً للضياع وسط ركابها، فإن الريف بدوره ليس أكثر من وسيلة للبحث المضني عن معان أخرى. نقي في البيئة ونقي في أعماق الغالب من الناس، على ذلك، بات الريف، في أفلام حديثة أخرى، مفترق طرق لبحث مضن لشخصيات أفاقت لتجد نفسها لم تفعل شيئاً بعد.
هذا وضع إحدى شخصيات فيلم «القديس المجهول» (2019) للمخرج المغربي علاء الدين ألجيم. رجل عاش طوال حياته ينتظر هطول المطر فوق تلك الصحراء التي يقطنها. كلما اقترح عليه ابنه أن ينزح للمدينة قال له إن المطر سيأتي ثم يبدأ بالصلاة والدعاء. ثم يأتي المطر إنما بعدما يكون قد أسلم الروح.
الصراع
في الفيلم ذاته شخصيات أخرى من خارج القرية الصحراوية التي تدور فيها الأحداث بينها طبيب يكتشف معنى الفراغ وضياع الشأن. هناك أيضاً ذلك اللص الذي هرب من المدينة بغنيمته وأودعها حفرة ليعود بعد سجنه ويجد عوض الحفرة بناءً يقصده أبناء القرية للتبرك به.
الريف قاس والصحراء أقسى كما نرى في فيلم الجزائري حسن فرحاني «143 شارع الصحراء» (2019) من مزايا هذا الفيلم أنه تسجيلي لا يؤلف حكايته بل يسرد حياة المرأة التي تعيش في بناء هو بيتها ودكانها على الطريق الصحراوي المنعزل. تتأمل في الفيلم فتجده لوحات في حياة تلك المرأة محفورة في الزمن.
بدوره قام المغربي حكيم بلعباس بتحقيق أفلام تسجيلية عن الريف تميّزت برهافة تصويرها للواقع من دون تدخل في طبيعته. وحتى عندما أقدم، سنة 2016، على تحقيق فيلم روائى، هو «عرق الشتا» حافظ على النسيج الجامع بين الروائي والتسجيلي جيداً. في هذا الفيلم حكاية مزارع اسمه مبارك يحفر في أرضه طالباً بئر ماء ينقذ به المحاصيل في موسم أصابه الجفاف. لديه زوجة حامل وابن معاق. لديه أرواح عليه إطعامها، وديون عليه سدادها وآمال صغيرة (تبدو له بحجم جبال عالية) يريد تحقيقها. لكن مبارك لا يستطيع فعل أي شيء حيال أي من هذه الأعباء التي يحملها.
تلاحقه الكاميرا بأسلوبها الطبيعي والواقعي. ما على المخرج إلا أن يؤسس لها ما يريده منها. غالباً المشاهد كافية لأن تعبر عن الدور المطلوب منها، كمشاهد الحفر التي تبدأ بعمق ظاهر لكن الحفرة تصبح أعمق وأعمق تماماً كحال مبارك، منزلقاً أكثر وأكثر في بؤسه ويأسه. لا يحتاج المخرج إلى الحوار لأن الصورة تعبر عن كل شيء يستطيع الكلام قوله.
في السنوات العشر الأخيرة أيضاً زاد عدد الأفلام التي تبحث في هجرة مفتوحة. باتت تتكلم، وتبعاً لوقائع حقيقية تعيشها بعض الدول العربية، تبحث في موضوع الهجرة من وإلى وغالباً من دون نجاح.
في «باريسية» لدانيال عربيد (لبنان- 2016) تتحدث المخرجة عن فتاة لبنانية اسمها لينا كرم (منال عيسى) كانت غادرت لبنان والتحقت بعمّتها (دارينا الجندي) التي تعيش في باريس، سنة 1993. زوج عمّتها سيمون (وليد زعيتر) يتحرّش بها فتترك البيت باحثة عن مأوى. مشاكلها الأخرى تشمل اضطرارها للعمل من دون رخصة والتعرف على رجلين تركاها بعد حين ورفض السلطات طلبها لإقامة دائمة.
في الاتجاه المعاكس، تعود بطلة «روحي» لجيهان شعيب (لبنان- 2016) إلى لبنان قادمة من فرنسا. كانت تركت لبنان صغيرة وعادت شابة تجر تلك الحقيبة الصغيرة لتجد بيت الأهل في قرية قرب مدينة عالية خاويا ومهجورا. تدخله كما لو كانت تدخل أتون متحف عبق ومهجور. سيكون هذا البيت الكبير، بتصميمه العمراني القديم، محطتها ولن تتركه رغم محيطها الرافض لها ورغم ما يكتنفها من أسئلة حول ماضي أسرتها وموقف أهل «الضيعة» منها. جاءت تبحث عن حقيقة مقتل جدّها معتقدة أنه كان مجرد ضحية في الحرب الأهلية فتكتشف أنه شارك بالقتل ضد «الجيران» (لا يكشف الفيلم عن هوياتهم).
إلى الغرب
العراقي المهاجر سمير جمال الدين أنجز عدّة أفلام عن الهجرة من العراق إلى شتى اتجاهات العالم. آخرها هو «بغداد في خيالي» (2019) الذي يتوسم رسم مجموعتين من الشخصيات العراقية والعربية عموماً، قسم منفتح وآخر منغلق. ليس هناك مجال لخيار ثالث، لكن المشكلة هي أن الانفتاح على العلاقات الجنسية (طبيعية ومثلية) ليس كافياً لكي يلعب دور النقيض للتطرف الذي يود الفيلم نقده.
أفضل من هذا الفيلم آخر ما حققه العراقي قتيبة الجنابي تحت عنوان «الرجل الخشب» (2020) حول مهاجر هارب لكنه ليس بشراً بل هو على شكل خشب. هذا الرمز يعالجه المخرج جيداً ويأتي في أعقاب أفلام أخرى له من بينها «قصص العابرين» (2017) الذي يجسد فيه خوف المهاجر من عيون النظام الذي هرب منه.
وفي فيلم نرجس النجار «بلا موطن» (المغرب- 2018) توفر المخرجة موضوعاً يُثير الاهتمام ناتجاً عن قيام السلطات الجزائرية بترحيل المغربيات المتزوّجات من جزائريين مما أدّى إلى تشتت نحو 40 ألف عائلة، حسب الفيلم، كانت عاشت في الجزائر وأنجبت هناك ثم وجدت نفسها تواجه مصائر مختلفة وكلها غير إنسانية.
والوضع السوري أنجب العديد من الأفلام الروائية (كما التسجيلية) عن الهجرة. بعض هذه الأفلام هي هجرة داخلية كمعظم أفلام المخرج جود سعيد مثل «مسافرو الحرب» (2018) و«نجمة الصبح» (2019) أو هجرة للخارج كما في الفيلم الحديث «السباحتان» لسالي الحسيني.
THE BOX OFFICE REPORT
◆ ما زال كوكب باندورا يهيمن على أسواق العروض الأرضية منذ أن غزا شاشات السينما في نهاية العام الماضي. فقد حقق «أفاتار.. طريق الماء» خلال 21 يوماً الأولى من عروضه مليارا و500 مليون دولار حول العالم من بينها 457 مليون دولار في أميركا الشمالية ومليار و25 مليون دولار من الأسواق العالمية الأخرى.
◆ بذلك، يتربع «أڤاتار.. طريق الماء» على قمة إيرادات العام متجاوزا ما أنجزه فيلم Top Gun: Maverick سابقاً عندما حقق مليارا و490 مليون دولار. لكن على «أڤاتار: طريق الماء» ما زال ثانياً حين المقارنة مع فيلم كان تم إطلاقه قبل عام وتجاوزت إيراداته مليارا و900 مليون دولار.
◆ كل ذلك عزز موقع شركة ديزني العملاقة في سوق العروض وهي التي آل إليها تمويل وإنتاج فيلم جيمس كاميرون بعدما كانت اشترت استوديوهات فوكس السينمائية التي كانت أنتجت الجزء الأول من «أڤاتار» سنة 2009.
◆ الحصيلة الكاملة لإيرادات ديزني في العام المنصرم وصلت إلي 4 مليارات و900 مليون دولار، بينها ملياري دولار داخل الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ـ دول شمالي أفريقيا) مليارين و900 مليون دولار خارجها.