ما الذي يدفعك كمشاهد إلى التفاعل مع مسلسل درامي إلى حدّ تبرير هفواته وزلّاته؟ وما الذي يجعلك تتواطأ مع أحداثه ضدّ المنطق وتبرّر غير المبرّر وتجد لعثراته الأعذار؟ وكيف تتحوّل من مجرّد مشاهد إلى لاعب في أحداث لا تشبهك مع شخصيات لا تشبه إلا نفسها، في مكان لا يشبه شيئاً من الأمكنة التي نعرفها ونألفها؟ وكيف تبهرك صورٌ لمّاعة تجافي أبسط قواعد المنطق؟ وكيف يصبح مشهد امرأة بكعبها العالي وفستانها اللماع وهي تقطع البصل في المطبخ عادياً لا بل ممتع؟ وكيف يصبح الاستيقاظ من النوم بملابس السهرة وبماكياج صارخ مقبولاً لا بل مطلوب ومرحّب به؟ وكيف تنجر برحابة صدر إلى لعبة لا تشبهك تتواطأ مع الأشرار، وتكيد مكائدهم وتصفق لانتصاراتهم وتحزن لانكساراتهم؟
أسئلة كثيرة نطرحها بعد انتهاء مسلسل «ستيلتو» الذي نجح في خلق حالة جماهيرية في العالم العربي، قلّما يحظى بمثلها مسلسل درامي يعرض خارج الموسم الرمضاني، 90 حلقة نجحت في إثارة الجدل، وأعادت ترتيب أولويات المشاهد العربي، ووضعت أمام شركات الإنتاج والكتاب خارطة طريق، عما يريده الجمهور، خارج إطار الأعمال التي تنتج على قياس نجوم، لشدّة ما استهلكوا لم يعد لديهم ما يقدّمونه.
نجح «ستيليتو» في تقديم بطولة جماعية، لا يطغى دور على آخر، إلا بمقدار ما يشتغل الممثل على أدواته. أما تقسيم الأدوار وأهميتها في سياق العمل، وحتى ترتيبها على الشاشة، فجاء منصفاً للجميع.. يلزم شركات الإنتاج العربية أن تقتنع بأن زمن البطولة الأحاديّة وحتى الثنائيّة قد ولّى، وأنّ شخصية البطل الذي تدور حوله كل الحكاية باتت مملّة، وأن تكرار الوجوه نفسها لم يعد مغرياً للمشاهد.
أجواء الشرّ المزيّنة بفساتين ملوّنة وتسريحات شعر مبهرة، وديكورات منازل لا تملّها حتى وإن ألفتها، ومجمّع سكني يشبه الأحلام، باطنه كوابيس لا تتمنّى أن تعيشها، وظاهره أناقة فريدة تجعل الكوابيس محتملة.
أربع نساء لا يجمع بينهن سوى الحقد المغلّف بصداقة مصالح وذكريات طفولة، تواطأن على الشر وآذت إحداهن الأخرى، فأدمنّ دائرة الثأر والثأر المضاد، وباتت حياتهن خارج هذه الدائرة فارغة، نموذج عن أشخاص يجرون خلف جلادهم، ويشعرون بالخواء عندما يعمّ السلام حياتهم، ويركضون خلف «الأكشن» ولو كانوا هم الضحية، خوفاً من فراغ الروتين القاتل.
عائلات مفكّكة ظاهرها جميل، الصورة خادعة لكنّ جدران المنازل الهشّة سرعان ما تتداعى. أعطى العمل رسالة واضحة وصريحة دون الحاجة إلى الوعظ المباشر، أن العائلة هي الأساس، وأنّ الخيانة جريمة قد لا يمرّ عليها الزمن، وأنّ الرغبات الآنية والسعادة الظرفية لا تستحق كل هذا العناء، وأن النّدم لا ينفع عندما تكون تداعيات الأخطاء قاتلة لا يمكن ترميمها.
ويخبرنا «ستيلتو» أيضاً، أننا في اللاوعي نحب المرأة القوية، التي تقف في مطبخها كأنها في حفلة، تتأنّق وتتألّق وهي تقطع شرائح اللحم وتقلي البصل وتعد قالب الحلوى. ليس المشهد منطقيا ولا حجة لتبريره، لكنّه مشهد بديع لم نملّه حتى عندما تكرّر في كل الحلقات. نحتاج إلى من يكسر الصورة النمطية عن أعمال المطبخ الشاقّة ولو على الشاشة.
يخبرنا «ستيلتو» أيضاً أن الأمومة تمحو بعض الخطايا، مشهد بطلاته يخلعن قناع الشر ليتحوّلن إلى أمهات محاربات، يعطي أعذاراً لزلاتهن.
أبدع الأبطال في بطولة جماعية تنافسوا لتقديم أداءٍ مدهش. رُسمت شخصياتهم بتفاصيلها، من أدق حركات الجسد إلى اللغة، فلكل بطل لغته، يتحدّث بها لا بلغة الكاتب، ولكل موقف ردّات فعل تنبع من شخصية البطل. لا انعطافة غير مفهومة في الشخصيات إلا إذا كان الموقف يحتّم التغيير، تغيّرت نايلة (ندى أبو فرحات) حين خانها زوجها لؤي (سامر المصري)، رفضت مسامحته لأن الضرر كان أكبر من أن يرمّم بكلمة.
وانكسرت فلك (ديما قندلفت) حين ظنّت أنّها تسيّر أمور كل الدائرة حولها، لتكتشف أنها ضحية خديعة شارك فيها زوجها كريم (قيس الشيخ نجيب) وصديقتها ألمى (كاريس بشار).
ورمى خالد (بديع أبو شقرا) أسلحته أمام فلك، عندما اكتشف أنّه يعشق هذه المرأة التي آذته طويلاً، ويحب ضعفها أمامه وتسلّحها بعدائية لتخفي هذا الضعف.
أبدعت ديما قندلفت في دور فلك، هذه المرأة التي تتنفس حقداً وشراً، قوية لا يكسرها شيء، لا نقطة ضوء في نفقها الأسود ورغم ذلك تورّط معها المشاهد، فرح لفرحها، حزن لحزنها، انتفض على انكسارها.. شخصية تدفعك إلى التساؤل عن الأسباب التي تدفع المشاهد إلى التعاطف مع الشرير على الشاشة.
نجحت ندى أبو فرحات في إيصال رسالة إلى النساء المخدوعات، أنّ الكلام المعسول الذي يأتي بعد الخيانة، قد يكون مجرد تكفير عن ذنب لا يغتفر. وأن من يغفر الذنب مرّة يصبح مطالباً بالغفران دائماً، وأنّ العائلات المبنية على الكذب والخداع مصيرها حتماً التفكك.
ونجح سامر المصري في إيصال رسالة إلى الأزواج، بأن الخيانة ليست مجرد رحلة تذهب إليها وأنت بكامل أناقتك، وتعود لتكمل حياتك وكأن شيئاً لم يكن، وأنّ النزوة العابرة قد تكلفك أمانك، تفقد بعدها أي نزوة حتى القدرة على منحك سعادة ظرفية.
أما ريتا حرب، فنجحت في دور جويل ديب في إيصال صورة عن نساء جميلات، فارعات الطول، لامعات دوماً من الخارج، منطفئات من الداخل. لا يقدرن قيمة النعم التي تحيط بهنّ، لديهن كل ما يجعل منهن شخصيات قيادية لكنّهن يفضلن أن يكنّ تابعات. اشتغلت ريتا على دورها، لغتها، حركة جسدها، ثنائيتها مع كارلوس عازار، أضفت طابعاً مرحاً على جو لا مكان للمرح فيه.
كارلوس لعب دور الشاب المستهتر الفارغ، أو هكذا تظنّه إلى أن يتيقّن أن الحياة ليست بالسهولة التي يظنّ، وأنّه في لحظات الشدّة يخلع عنه ثوب الخواء ولو متأخراً.
قيس الشيخ نجيب نجح في دور كريم بجرّنا إلى التعاطف مع خيانته لفلك، علاقته بألمى طرحت تساؤلات عدّة، كيف تكون الخيانة أحياناً جريمة وكيف تكون حباً؟ ولماذا نقسو على خونة ونتعاطف مع خونة آخرين؟ وهل يبنى حب على أنقاض أسرة؟ وأي أسرة كانت قائمة على الخداع؟
لكن مع تقدّم الأحداث، استقامت الأمور وبات كريم مجرد رجل خائن، يبحث عن سعادته على أنقاض استقرار أسرته وطفلته الوحيدة. دوره كأب كان الأجمل ومشهد النهاية أمام فلك كان الأصدق.
الممثلة الوحيدة التي لم تحظ بالإجماع كانت كاريس بشار بدور الطبيبة ألمى، التي ذاقت من غدر صديقاتها في الطفولة، فعادت بعد غياب لتجتمع بهنّ، تعد العدّة لانتقام يؤكل بارداً، تسامح حيناً، وعند أوّل غدر تعود لتتذكّر كل تفاصيل الحكاية.. بعض الحكايا لا يكفيها التسامح والغفران لتُطوى.
رسمت كاريس تفاصيل دقيقة لشخصيتها، عيون ذابلة، نظرات خجولة، ضحكة طفولية، مشاهدها الرومانسية لم تقنعنا.. لحظات الغضب والانفعال، والثورة على الظلم، تشبه أكثر شخصيتها كطبيبة، تخطّت انكسارها ونجحت ثم انكسرت وعادت لتقف على قدميها. تخبرك ألمى بأن الجروح التي لا تشفى قد تجعل باقي الجروح أقل إيلاماً.
أما بديع أبو شقرا، فبدا دوره عادياً لا لمعة فيه، لمعة حبّه لفلك نقلت دوره إلى مكانٍ آخر، ثنائية ديما وبديع أكثر من بديعة، وروايته للأحداث بصوته أعطت للمسلسل نمطاً سردياً ممتعاً أخرجه من فخ الوقوع في الملل.
من الشخصيات التي لفتت نظرنا في العمل، شخصية روي (جاد خاطر)، الشاب المتفاني في عمله، يحمي الدكتورة ألمى ويقف لأعدائها بالمرصاد. شاب ناعم بقمصان مزركشة، يتخطى النظرة التقليدية للرجل صاحب العضلات المفتولة ليثبت أن الرجال مواقف. نجح الممثل الشاب في جعل هذه الشخصية الهامشية في أحداث المسلسل شخصية تُنتظر ويُحسب لها حساب.
كذلك نجحت الممثلة الشابة فيكتوريا عون، التي لعبت دور ابنة نايلة ولؤي في إقناعنا بأننا أمام مشروع نجمة لا يستهان بقدراتها.
«ستيليتو» المقتبس من عمل تركي الذي غيّر صنّاعه نهايته كي لا ينطلق من أحداث معروفة سلفاً، تمّ تصويره في تركيا، في مكان انتحل صفة لبنان، غالى مخرج العمل التركي في إظهار الأعلام اللبنانية في كل مكان، وشاهدنا صورة رئيس الجمهورية ميشال عون بحجم مبالغ به وهي تتصدّر جدران مركز التفتيش، ليقنعنا أنّنا أمام النسخة العربية، فبدا مشهد انقطاع الكهرباء والفوضى التي حصلت في المجمع كوميديا، في بلد احترف الإقامة تحت الظلام الإجباري حتى في عز عزّه.
رغم التطويل، ورغم بعض المشاهد غير المقنعة، ورغم بعض الهفوات، نجح «ستيليتو» في فصل المشاهد العربي عن واقعه، ليطرح تساؤلات: هل فعلاً نريد أعمالاً من صلب واقع نهرب منه أم نريد أعمالاً تساعدنا على الهروب من الواقع؟