دمشق: لم تكن ظاهرة التسول بمنأى عن المجتمع السوري منذ عقود، وقد تعايش معها الشعب والحكومة كآفة لا يمكن التخلص منها بشكل كلي، إلا أن المتسولين في الآونة الأخيرة باتوا يظهرون بأشكال مختلفة، ومتعددة للحصول على أكبر قدر من المال، كأن يغلفوا تسولهم بمهنة أو بمرض أو ربما بحاجة معينة، وأصبحت أحياء العاصمة السورية الأكثر شهرة لا تخلو من عشرات المتسولين يومياً، بين أطفال، وجال، ونساء أيضاً.
أشكال التسول
لا يمكن اليوم حصر أنواع التسول في سوريا، كما لا يمكن معرفة من هم بأمس الحاجة بحق ولا يمتهنون التسول كمهنة، نظراً لاتباع العديد من الأشكال المختلفة والمغلفة للتسول، منها التسول المستتر، وهنا لا يسأل المتسول المال، ولا ينطق بالمقولات المشهورة للتسول «من مال الله يا محسنين»، بل يكتفي بافتراش الطريق أو الحدائق والأرصفة والنوم على قطعة من الكرتون، ويبدأ المتبرعون بالتهافت عليه لأنه لم يطلب، وبذلك يعتقدون أنه بحاجة فعلاً.
وهناك نوع آخر من التسول يعترض شوارع دمشق اليوم، وهو التسول المغلف بمهنة ما، فتجد العديد من الأطفال الذين يمشطون أشهر شوارع دمشق كالمالكي والصالحية ذهاباً وإياباً لبيع البسكويت الرخيص مثلاً، أو الجوارب، أو علب المحارم، من أجل استعطاف من حولهم وزرع صورة ذهنية لديهم مفادها: «نحن لا نتسول وإنما نحصل على رزقنا من عملنا». وأي رزق يستطيع شخص أو عائلة تعيش منه مصدره علب المحارم، أو الجوارب.
وفي أحياء باب توما، وباب شرقي، يختلف اختصاص المتسولين في تلك الأحياء عن المالكي والصالحية، ففي الأحياء القديمة ينتشر بائعو الورود الذين يلحقون بالشبان فور رؤيتهم من أجل بيع الورد لهم، وعن فئة المسنين يتواجد العديد من المسنين الذين يتظاهرون بفقدان البصر، ويحمل بعض الأوراق الطبية المزورة وذلك من أجل استجداء عطف الناس لمساعدته في مرضه، على الرغم من وجود العديد من الجمعيات الخيرية التي تقدم المساعدة للكثير من المرضى وبشكل مجاني، إلا أن مهنة التسول بغرض العلاج من مرض معين قد تكون مربحة أكثر من غيرها اليوم في سوريا.
آفة سببها الحرب
خلفت الحرب السورية العديد من الآفات الاجتماعية، التي لم تكن إلا ظواهر رفضها السوريون ذات يوم في بلادهم، وكانوا يرون فيها نوعا من الاعتداء على محرماتهم، ولكن مشهد سوريا اليوم، وما يراه شعبها، يختلف كلياً عن السابق، فالمهن التي كانت مستهجنة لأكثرهم، كالتسول والدعارة، أصبحت اليوم جزءاً من حياتهم، لا يمكنهم إنكارها، ولا حتى رفضها.
وتقول أستاذة علم الاجتماع في جامعة دمشق هناء منصور لـ«المجلة»: «هذه الظواهر أو كما تسمى بالآفات تظهر اليوم في سوريا نتيجة الفقر، فحسب المركز السوري لبحوث السياسات، هناك أكثر من 93 في المائة يعيشون الفقر والحرمان، و60 في المائة يعانون الفقر المدقع، فكيف يمكن تخيل مجتمع بهذه النسب لا يعمل نصف شعبه في التسول، سواء كان بشكل مباشر أم غير مباشر، بشكل مغلف أم غير مغلف»، وعن الحلول تقول: «الحلول ليست من وزارة الشؤون الاجتماعية اليوم، بل يجب إيجاد حل للظروف الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، فعندما يتم تأمين المستلزمات بأسعار مقبولة، ويتم فك الحصار الاقتصادي عن سوريا، ويُرمم ما تم تدميره، حينها سنجد تلقائياً ظاهرة التسول في تقلص، حينها نقول أين دور الشؤون الاجتماعية، أما الآن فالحل متروك للظروف الاقتصادية فقط».
التسول المحترم
تتحدث ريم وهي طالبة جامعية في جامعة دمشق لـ«المجلة» عن نوع من المتسولين الذين تفاجأت به حديثاً في دمشق، تقول: «لقد كنت أخرج لتوي من الجامعة، وأتجه نحو الأوتوستراد الرئيسي في المزة لأستقل الباص، استوقفتني امرأة شكلها الخارجي يشير إلى أنها ليست قطعاً من المتسولين، وإنما ربة منزل محترمة وعلى وجهها علامات تبوح بوقوعها في مأزق، اقتربت مني وقالت (لو سمحتي يا بنتي ممكن تساعديني بأجرة الباص) مبررة ذلك بأنها لم يتبق لديها مال للعودة إلى منزلها، حينها شعرت بتأنيب ضمير وألم داخلي لما وصل له الحال في سوريا وأخرجت 500 ليرة من حقيبتي ووضعتها بيدها وأكملت طريقي إلا أنها وفور التفاتي عادت إلي لتقول لي إنها تريد العودة لمنطقة القصير (وهي منطقة تقع في محافظة حمص) حينها جحظت عيناي والتفت وعدت لمنزلي مستغربة مما حصل، دون أن أكون متيقنة من أنها صادقة أم لا، وفي اليوم التالي عند خروجي عاودت رؤيتها وهي تستوقف طالبا آخر لتسأله أجرة الطريق لمنطقة القصير».
ظاهرة قديمة
في إحدى لوحات مسلسل «مرايا» السوري الشهير، عرض الممثل ياسر عظمة حياة موظف سوري، وكيف ترك مهنته كمحقق ليعمل في التسول، حيث اكتشف حينها أن دخل المتسول شهرياً هو أضعاف الموظف السوري في سوريا، وذلك في عام 1997، فكيف اليوم ودخل المواطن السوري يحتاج عشرات الأضعاف من راتبه الشهري لكي يتمكن من العيش في سوريا.
وقد نشرت صحيفة «تشرين» السورية الرسمية إحصائية من الدراسات الاجتماعية، قدرت خلالها عدد المتسولين في سوريا بشكل تقريبي بحوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات 51.1 في المائة منهم إناث، و49.9 في المائة ذكور.. كما أن 4.64 في المائة منهم يمارسون التسول بشكل احترافي، ويشكل الأطفال 10 في المائة من العدد الإجمالي، أي حوالي 25 ألف طفل. وأوضح علي الحسين، مدير مكتب مكافحة التسول في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية، أن «التسول مهنة سريعة الربح، ونسب التشرد قد ازداد ثلاثة أضعاف نتيجة ما حدث في سوريا في الأعوام العشرة الأخيرة»، وعن الحلول يقول الحسين: «لدى الوزارة مشروع لكبح هذه الظاهرة كمشروع إدارة الحالة الذي يتضمن الرعاية النفسية، والاجتماعية للمشردين من خلاله». وأضاف الحسين أن «مكتب التسول تعامل مع 162 حالة حتى شهر يونيو (حزيران) من العام الحالي، كما بلغ عدد القاطنين في دار الكسوة لرعاية المشردين 225 شخصا، وتمت معالجة 623 حالة في الدار منذ بداية العام الجاري».
ما هو التسول؟
يعتبر التسول ظاهرة عالمية، لا تخص بلداً بعينه، وقد عُرف بأنه «طلب الشخص المتسول للمال من الناس في الطرقات أو الأماكن العامة والمزدحمة، بعد إثارة استعطافهم مع وضعه»، والمتسول كما عرفه القانون السوري قانون العقوبات في مادته 596: «من كانت له موارد أو كان يستطيع الحصول على موارد بالعمل فاستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان كان إما صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية».
وقد يأخذ عدة أشكال كطلب المال مباشرة بشكل صريح مع عبارات الشكوى والدعاء للشخص لاستعطافه، وقد تكون عن طريق بيع سلع رخيصة مع الإلحاح على الشخص لشراء السلعة و الحصول على المال.
وقد تحدث الباحث الاقتصادي دكتور فراس شعبو، عن الأسباب التي جعلت ظاهرة التسول تتضخم، وتستفحل وحصرها بأنها نتيجة «انعدام الوعي، والتسرب المدرسي.. والسبب الأساسي لهذه الظاهرة هو تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد»، وفي عام 2021 أوضحت الأمم المتحدة أن 90 في المائة من السوريين تحت خط الفقر.
عقوبة القانون السوري للمتسول
أقر المشرع السوري للتسول عقوبة الحبس مع الشغل من شهر إلى ستة أشهر، وذلك في الفقرة الأولى من المادة (596) من قانون العقوبات، وجريمة التسول على هذا النحو- بالنظر للعقوبة المقررة- لها وصف الجنحة.
كما أعطت الفقرة الثانية من المادة ذاتها للمحكمة إمكانية فرض تدبير احترازي هو الحجز في دار للتشغيل، وبصدد ذلك القانون يقول قاضي التحقيق الثاني بدمشق محمد خربوطلي إن «99 في المائة من المتسولين غير محتاجين، وأي متسول يتم القبض عليه ويستطيع تحصيل قوت يومه بنفسه، يتم حبسه لمدة تتراوح بين 3 أشهر وسنة، بالإضافة إلى دفع غرامة مالية تتراوح بين 10 و25 ألف ليرة سورية، إلا أن القانون رقم (15) عام 2022 شدد الغرامات على المتسولين حيث ارتفعت بشكل ملحوظ لتبدأ من 100 ألف وتصل إلى 500 ألف ليرة سورية، وفي حال لجأ المتسول للتهديد، أو الشتم، أو الضرب، أو تظاهر بوجود عاهة لديه، تشدد العقوبة وقد تصل للحبس 3 سنوات».
وأضاف خربوطلي أن نسبة المتسولين من الموقوفين يومياً تبلغ 10 في المائة، وعن الحالات التي يتم تشديد العقوبة فيها حصرها خربوطلي بـ: «إذا كان المتسول خطراً على المارة، أو قام بتهديدهم، أو إذا كان المتسول يحمل شهادة فقر مزورة، أو ادعى أنه يعاني من إصابة، أو إعاقة، وإذا رافق المتسول قاصر دون سن السبع سنوات ولم يكن أحد أولاده، أو كان يحمل سلاحاً أثناء تسوله».
وفي دراسة أجراها المركز السوري لبحوث السياسات، بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت، أوضحت أن الاقتصاد السوري تجاوزت خسائره 380 مليارا، في حين يصل العجز ذروته من قبل الحكومة السورية، فقد أجمع الخبراء أن الخروج من هذه الظاهرة يحتاج لتوفير الأمن، والأمان، والغذاء، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، ليتم اللجوء بعدها إلى رفع مستوى الوعي، والردع، ومكافحة التسول، فكيف يمكن لجهة حكومية أن تكافح ظاهرة ما، وهي تؤمن لها كافة الأسباب لانتشارها؟