القاهرة: يواجه القطاع العقاري المصري تحديات صعبة مع الارتفاع القياسي الذي تشهده أسعار مواد البناء، وعدم قدرة الشركات في الوقت ذاته على تعويضها عن طريق رفع أسعار الوحدات السكنية، في ظل ضعف القدرة الشرائية للعملاء، والمخاوف من إمكانية حدوث ركود في السوق التي مرت بسلسلة من التحديات الكبيرة على مدار السنوات الخمس الأخيرة.
فقد رفعت شركات الحديد الأسعار ثلاث مرات في النصف الأخير من شهر ديسمبر (كانون الأول)، ليصل سعر الطن تسليم المصنع ما بين 23.5 و25 ألف جنيه على حسب المحافظة والنوع والمصنع المنُتج لها، بينما يتجاوز في أسعار المستهلك حاجز الـ30 ألفًا، وفي الفترة ذاتها ارتفعت أسعار الأسمنت ليتراوح الطن بين 1850 و1950 جنيهًا، وكذلك باقي مواد البناء من رمل وزلط وطوب إسمنتي وأحمر.
وقد طالب أحمد الزيني، رئيس شعبة مواد البناء بالغرفة التجارية، الجهات الرقابية بالتدخل، لحماية القطاع العقاري، من الممارسات الضارة من قبل التجار الذين يقومون بالتخزين من أجل تقليل كمية المعروض بالسوق مما يمنحهم القدرة على التحكم في الأسعار، حتى إن سعر المستهلك في بعض المناطق وصل إلى 30 ألف جنيه للطن، وللمرة الأولى في تاريخ مواد البناء بمصر يوجد فارق بين سعر بيع المصنع والمستهلك يناهز 5 آلاف جنيه.
وقال الزيني، لـ«المجلة»، إن فرض الحكومة رسوما على تصدير الخردة بواقع 3500 جنيه أمر جيد، خاصة أن السوق تحتاج إعادة استخدام الخردة مرة أخرى والتي يتم تصديرها وإعادة استيرادها بالدولار مجددًا، لكنه طالب في الوقت ذاته بإعادة النظر في قرار حماية المنافسة بالسماح لشركات الإسمنت بخفض الأسعار الذي رفع أسعار الإسمنت المسلح بنحو 80 في المائة منذ صدوره في عام 2021 بعد شكوى الشركات من تعرضها لخسائر بسبب زيادة حجم المعروض عن الاستهلاك.
وبحسب شعبة الأسمنت في اتحاد الصناعات، فإن المدخلات المستوردة التي تستخدم في صناعة الأسمنت تشكل حوالي 70 في المائة وبالتالي فالأسمنت مثل أي منتج يتأثر بشكل طبيعي بسعر صرف الدولار الأميركي، ومرتبط بحركة فتح الاعتمادات بالبنوك التي تعاني اختناقات منذ أزمة العملة الصعبة، فضلاً عن أن مصر استهلكت حوالي 52 مليون طن أسمنت في جميع مشروعاتها خلال العام 2022، ومن المتوقع أن يصل إجمالي حجم تصدير منتج الأسمنت للخارج مع نهاية العام إلى 10 ملايين طن.
المتضرر الأول
يؤكد مطورون أن وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية أحد المتضررين الكبار من ارتفاع أسعار مواد البناء في ظل المشروعات القومية الضخمة التي تدشنها حاليًا والتي تصل إلى نحو 61 مدينة جديدة بمساحة تصل إلى 2.2 مليون فدان يقطنها 8 ملايين نسمة مغلقة ومن المستهدف أن تستوعب حين اكتمال نموها حوالي 65 مليون نسمة، ضمن خطة حكومية لرفع مساحة الرقعة المعمورة بمصر من 7.5 في المائة إلى 14 في المائة.
أمام الأزمة الحالية، طالب نواب في البرلمان المصري بحساب تكلفة صناعة مواد البناء بداية من مدخلات الإنتاج ووضع هامش الربح العادل، بالتنسيق مع صناع الحديد والأسمنت، بجانب إجراءات رقابية على التجار لإلزامهم بالالتزام بهامش الربح المحدد، خاصة أنهم عامل أساسي في ارتفاع الأسعار بشكل غير مبرر الفترة الأخيرة، مؤكدين على أن التوصل إلى سعر عادل لمواد البناء يضمن استمرار عمل الصناعات المهمة بكفاءة، خاصة أن العقار والتشييد والبناء محرك لعجلة الاقتصاد، وكان له دور كبير في ارتفاع معدلات النمو وهو أمر يجب أن يستمر.
يقول فتح الله فوزي، رئيس لجنة التشييد والبناء في جمعية رجال الأعمال، إن الشركات العقارية ستضطر إلى رفع أسعارها ما بين 25 و30 في المائة لمجابهة الارتفاعات الكبيرة التي تشهدها أسعار مواد البناء، فالشركات ليس لديها رفاهية الانتظار من أجل استقرار السوق في ظل وجود التزامات لديها تجاه العملاء في العقود الموقعة بين الطرفين، ومواعيد للتسليم لا يمكن الإخلال بها.
ويعتبر الالتزام بمواعيد التسليم أحد العناصر الأساسية التي تعتمد عليها الشركات حاليا في بناء صورتها الذهنية في السوق، خاصة أن الإخلال بها يعرض الشركة لحملات من رواد السوشيال ميديا، وما دفع بعض الشركات أخيرًا للمطالبة بقانون يحمي المطورين من الشائعات التي يتم ترديدها على موقع «فيسبوك» خصيصًا.
تحديات صعبة
يضيف فتح الله، لـ«المجلة»، أن الشركات التي باعت مشروعاتها بشكل كبير على الماكيت وبدأت في البناء لديها تحديات صعبة جدًا مع تغير تكاليف المشروع بشكل كبير، أما الشركات التي تبدأ في طرح مشروعات جديدة فستختار أن تمنح تسهيلات في سداد الأقساط، على مدد زمنية أطول للعملاء من أجل مواكبة قدرتهم على الشراء، موضحا أن الشركات قبل التعويم الأول للجنيه في 2016 كانت تحدد مدد السداد بـ5 سنوات وتمت زيادتها باستمرار على مدار السنوات الماضية.
لجأ العديد من المطورين المصريين خلال السنوات الأخيرة لزيادة مدد السداد لتصل إلى 15 عاما في المشروعات الجديدة، وهو أمر يدعم العملاء من ناحية التناسب مع مستوى دخولهم لكنه يحمل إرهاقا لهم على المدى البعيد، فطول مدة التقسيط تزيد تكلفة إضافية بزيادة قيمة الفائدة المدفوعة على الأقساط أو رفع الشركة قيمة الوحدة من الأساس لضمان حماية أموالها من ارتفاع مستويات التضخم.
أحمد حسام عوض، رئيس شركة هوجر للإنشاء والتعمير، يؤكد أن الشركات العقارية المصرية تعاني بشدة جراء ارتفاع أسعار المواد الخام خاصة مع ارتباطها بأسعار بيع أو تعاقد، ففي مجال المقاولات يعوض قانون التعويضات التكاليف بعض الشيء لكنه لن يكون كافيًا لملاحقة الارتفاع الجنوبي في الأسعار، فالحديد على سبيل المثال ارتفع من مستوى 16 ألف جنيه إلى 33 ألفًا تسليم مستهلك بنسبة زيادة 100 في المائة خلال مدة لا تتجاوز 90 يومًا.
وكلف مجلس الوزراء المصري وزارة الإسكان أخيرًا بدراسة المذكرة العاجلة التي تقدم بها اتحاد مقاولي التشييد والبناء، يطالب فيها بتقديم الدعم والمساندة لشركات القطاع بعد تأثر أعمالها لارتفاعات تكاليف ومواد البناء نتيجة تحرير سعر الصرف.
تعويضات كبيرة
حصلت شركات المقاولات المصرية التي تعمل في مشروعات مع الدولة منذ عام 2016 على 20 مليار جنيه كتعويض عن فروق مواد البناء تم صرف 18 مليارًا منها، وفي انتظار سداد ملياري جنيه لتدعيم الموقف المالي للشركات، التي باتت تطلب المزيد بسبب التعويم الثاني للعملة المحلية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لتفقد 57.5 في المائة من قيمتها الشرائية أمام الدولار خلال 2022.
ويضيف عوض لـ«المجلة»، أن بعض الشركات تراجعت ربحيتها والبعض الآخر خسر بسبب ارتباطه بأسعار بيع قديمة وقطاع ثالث حاول التعويض في المراحل التالية للمشروعات لكنه أمر يحمل قدرًا من المخاطرة أيضًا في إمكانية إصابة السوق بالركود، خاصة في فئات الإسكان الفاخر، لكنه شدد على أن العقار المصري لا يزال الملاذ الآمن لكثير من الراغبين في الاستثمار بجانب الربحية الكبيرة التي يحققها المستثمرون به.
وشدد عوض على أن العمود الفقري للاقتصاد المصري حاليًا هو قطاع المقاولات الذي شهد دخول بعض الشركات إليه أخيًرا بجانب مجال التطوير العقاري لأنه أكثر أمانًا حاليًا في ظل التذبذب المستمر في أسعار المواد الخام، وعدم قدرة أصحاب المشروعات حاليًا على تحديد سعر للتكلفة أو تحديد هامش الربح الذي يمكن أن يحققوه من المشروع.
محرك النمو
وظل القطاع العقاري المحرك الأول للنمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة كما استطاع استيعاب القدر الأكبر من العمالة العائدة من الخارج خاصة ليبيا، ويبلغ عدد العاملين به حاليًا نحو 10 ملايين شخص بحسب دراسة للاتحاد العام للتشييد والبناء، كما يعتبر المحرك الأول لنحو 100 صناعة ترتبط به بشكل مباشر أو غير مباشرة كصناعات الأثاث والديكور وغيرهما.
لكن مع كمية الضغوط التي تواجه الشركات العقارية لا يزال قطاع كبير من رؤسائها مؤمنين بقدرة القطاع على تجاوز الأزمات في ظل التنامي الكبير للسكان، وعدد الزيجات السنوية التي لا تقل عن 600 ألف زيجة وتخلق طلبا على العقار بالنسبة ذاتها، علاوة على ثقافة الشعب المصري الذي يرى في العقار وسيلة لحماية الأموال من التضخم، حتى أن 2022 رغم أزماته شهد ارتفاعًا في مبيعات الشركات بنسبة تتراوح بين 10 و25 في المائة.
وأكد تقرير أخير لوكالة «فيتش» أن الوضع العام لقطاع العقارات التجارية في مصر يعتبر محفزًا قويًّا للاستثمار في السوق بسبب التطوير المستمر وتشييد مدن جديدة، بالإضافة إلى تطوير 23 مدينة قائمة، كما توفر المدن الجديدة للمستثمرين المحتملين فرصًا جذابة ومشروعات عقارية واسعة النطاق، خاصة العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة العلمين الجديدة.
ويطالب فتح الله فوزي وقطاع عريض من المطورين بأن يزيد دور القطاع المصرفي بقوة في سوق العقار بحيث تمتد مبادرات التمويل إلى الشقق تحت التشطيب وليس الوحدات الجاهزة، الأمر الذي سيعمل على زيادة عدد المنتفعين بالتمويل العقاري ويوفر على الشركات القيام بدوري البناء وتمويل العميل في الوقت ذاته.
ويطالب مطورون بإلغاء الطريقة المتبعة، حاليًا، للبيع التي تتضمن البيع على الماكيت أو قبل تنفيذ المشروع، على أن يتم استبداله بنظام تقومك فيه شركات التمويل العقاري والبنوك بتمويل الوحدات وتتولى تحصيل الأقساط من العملاء، حسب المدة التي تحددها، وهو أمر يقلل نسب المخاطرة في السوق ويمنح الشركات سيولة مستمرة للتوسع.