رياح التغيير بدأت عام 2004 و الخصخصة نقطة الانطلاق للاقتصاد السوري

رياح التغيير بدأت عام 2004 و الخصخصة نقطة الانطلاق للاقتصاد السوري

[escenic_image id="5512350"]

جذبت الأضواء المتلألئة والموسيقى الصاخبة التي صاحبت افتتاح محل "زارا" للملابس الإسبانية، الأسبوع الماضي في سوريا، أنظار الكثير من السوريين إلى هذا الافتتاح. فالمحل يحمل اسمًا تجاريًا أجنبيًا من بين العديد من الأسماء الأخرى التي ظهرت في مراكز التسوق في جميع أنحاء البلاد، مما جعل الكثيرين يتوقعون موجة جديدة من النشاط التجاري وتعزيز ديناميكية مجال الأعمال في سوريا. وفي ضوء الزيادة المتنامية في السلع المستوردة بالسوق السوري، تزداد رغبة المواطنين في الاستفادة من المزيد من التنوع في السلع والخدمات؛ ذلك التنوع الذي نشأ من التحرر الاقتصادي الذي تشهده البلاد في الوقت الراهن.

وبإلقاء نظرة سريعة، يمكن أن نستشعر رياح التغيير التي تكتنف الاقتصاد السوري. فقد كان عام 2004، هو بداية مرحلة جديدة في التاريخ الاقتصادي لسوريا حيث تعد الخصخصة بمثابة المحرك الرئيسي للتغيير. ومن بين التغيرات البارزة ظهور مؤسسات تعليمية أجنبية وتأسيس 15 جامعة خاصة في سوريا تستخدم فيها اللغتان الإنجليزية والفرنسية في التعليم. كما ظهرت شركات تأمين خاصة وأخرى أجنبية إضافة إلى ظهور بنوك خاصة أغلبها لبناني وبنوك أخرى تلتزم بالشريعة الإسلامية.

وأساس هذه التغيرات ذلك الاستقرار السياسي الفريد من نوعه الذي تتمتع به سوريا إذا ما قورنت بالعديد من جاراتها. فعلى العكس من لبنان، فإن التركيب الطائفي المتناغم للمجتمع السوري لم يقم أبدًا على أساس التنافس. وعلى العكس من فلسطين، ليس هناك أي ضغائن تتسم بالعنف بين الأحزاب السياسية. وعلى العكس من العراق، لم يحدث أبدًا أن تمزقت الإدارة السورية للالتزام بتوجهات الوافدين الجدد.

وهذا الاستقرار السياسي جذب رجال الأعمال الأجانب الباحثين عن مكان يتمتع بإمكانات كبيرة كي يقوموا باستكشاف فرصه الاقتصادية. وتسارعت تدفقات رأس المال الأجنبي بعد إقرار الحكومة السورية المرسوم التشريعي رقم 8. ومنذ ذلك الحين، ازدهر سوق العقارات ورأت مشروعات إنشائية ضخمة النور.

مواجهة الأزمة

من بين الرؤى الشائعة في المجتمع الاقتصادي والمالي أنه بالرغم من التقدم الكبير الذي حققته سوريا نتيجة الإصلاحات، فإن انفتاحها على الاقتصاد الدولي لا يزال محدودًا جدًا. وفي حين أن هذا الانفتاح المحدود يتضمن حقيقة أن سوريا لا يمكنها أن تستفيد من تحسن الاقتصاد العالمي، فإنه يحمل، أيضًا، فكرة أن الاقتصاد السوري لم يعانِ بشدة من حالات الركود الاقتصادي العالمي مثل الأزمة الاقتصادية المالية التي يشهدها العالم. وكما أكد وزير المالية السوري محمد الحسين في "المؤتمر الدولي للمال" "أن، سوريا هي الأقل تأثرًا نظرًا لانفتاحها الاقتصادي المحدود على رأس المال الأجنبي في أسواق الغرب".

ومع ذلك فإن هذا التصريح يتعارض مع الطريق الأمثل الذي يمكن أن يعزز الاقتصاد السوري. والذي يمكن أن يستفيد بالكثير من اقتصادات البرازيل وروسيا والهند والصين. فكل من هذه الدول تواجه مشكلات داخلية هائلة، لكن العزلة لم تحقق نفعًا أبدًا لأي منها. فالبرازيل التي لديها تاريخ سيئ مليء بالمشكلات الهيكلية الاقتصادية، نجت من عقود الركود الاقتصادي بعد تطبيق إصلاحات اقتصادية مهمة. ولم تزدهر الشركات المملوكة للدولة بشكل خاص إلا بعد أن أبعدتها الخصخصة الجزئية أو الكلية عن قبضة الحكومة. وبالمثل، عاد الاقتصاد بأكمله إلى مساره الصحيح بعد أن حد من استقلال البنك المركزي من صعوبة استخدام الحكومة للنظام النقدي في دعم إنفاقها الذي كان أساسه التبذير. وبناءً على هذه الإصلاحات، فإنه وفقًا لتنبؤات تقرير جولدمان ساكس فإن البرازيل، كما الدول الثلاث الأخرى (روسيا والصين والهند)، سوف تتفوق على المجموعة السداسية بحلول عام 2050.   

لكنه، كما نرى الآن، لا يُسمح في سوريا للمؤسسات المملوكة للدولة بالعمل بعيدًا عن قبضة الحكومة. فبالرغم من أن البنك المركزي السوري يتبع سياسة محافظة في تعامله مع الأسواق الدولية، فإن نفس السياسات التي أتاحت لسوريا عدم تكبد خسائر كبيرة خلال الأزمة الاقتصادية تقيد أيضًا نمو الاقتصاد السوري وتطوره على المديين المتوسط والبعيد.

الإصلاحات البطيئة

من المؤسف أن عجلة الإصلاح الاقتصادي في سوريا تدور بإيقاع أبطأ مما كان مأمولًا. ووفقًا لتقرير تنافسية العالم العربي الصادرعن المنتدى الاقتصادي العالمي، تقع سوريا في المرتبة الثانية عشرة بين 48 اقتصادًا في أدنى مرحلة من مراحل التنمية. فمثلًا، تقع الأردن المجاورة لسوريا في المرتبة الثالثة عشرة بين 40 دولة في المرحلة الوسطى من مراحل التنمية نتيجة للمؤسسات العامة التي تتمتع بالشفافية والقوانين والتشريعات المعززة لمجال الأعمال التي يسهل الالتزام بها. وعلى عكس الأردن، ورثت سوريا سياسات اقتصادية غير فعالة من ماضيها لا تزال تعرقل تقدمها الاقتصادي.

ومن بين القيود الداخلية في سوريا، تعد البيروقراطية واحدة من أكبر التحديات التي تعرقل التنمية. وبدأ الإصلاح التنظيمي بتأسيس نظام "النافذة الواحدة" في مدن صناعية مثل دمشق وحلب وحمص. ومثل هذا النظام يضع كل الخدمات في مكان واحد، يتيح لكل مكتب أن يتمتع بمزيد من الكفاءة والفعالية. وبتطبيق هذه الممارسات على القطاع العام ككل، يمكن أن تتحسن العملية البيروقراطية بشكل كبير. 

وواجهت المحاولات، التي قامت بها الحكومة، في سبيل دمج الاقتصاد السوري في الأسواق العالمية عقبة كبيرة ،أيضًا، عندما أصبحت القدرة الإنتاجية السورية موضع جدل كبير. وكانت المحاولة الأولى عندما تم توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا في عام 2004، بهدف تسويق السلع المحلية للمستهلكين الأتراك. ومع ذلك، أثبتت المنتجات سورية الصنع عدم قدرتها على المنافسة في الأسواق التركية نظرًا لانخفاض جودتها. وأصل المشكلة يعود إلى غياب إجراءات الرقابة على الجودة في سوريا التي يفترض أنها ترصد كلًا من عملية الإنتاج وجودة المخرجات. لكن الأهم من ذلك هو غياب التنافسية بين الشركات السورية نفسها، تلك التنافسية التي من شأنها تعزيز عملية التنمية وتطبيق إستراتيجيات فعالة وتحفيز الاستثمار في مجالي البحث والتطوير.

وفي محاولة منها للتغلب على مشكلاتها وتعويض العجز المتزايد في الميزانية ومواردها البشرية غير الملائمة، تعين على سوريا أن تعتمد على المساعدات الأجنبية. فمثلًا أسهم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بنحو 970 ألف دولار أمريكي من أجل بناء القدرات في البيروقراطيات الحكومية. كما حصلت سوريا على مساعدات لا يمكن إغفالها من جارتها الشمالية تركيا. وشهد الاجتماع الأخير لرئيسي وزراء كلا البلدين في أكتوبر/ تشرين الأول 2009، توقيع أكثر من 40 صفقة واتفاقية تغطي القضايا الاقتصادية والبيئية، ومن ثم تعزز بشكل كبير العلاقات الاقتصادية الثنائية بين البلدين. وبلغ حجم الاستثمارات التركية 400 مليون دولار أمريكي في عام 2009، مما أحدث زخمًا لتحقيق مزيد من التعاون.   

وثمة شريك دولي آخر له أهميته بالنسبة لسوريا وهو ألمانيا التي تساعد دمشق حاليًا في تطوير قطاع توزيع المياه بالبلاد. وفي الوقت الحالي، يعمل نحو 50 خبيرًا ألمانيًا كمشرفين أو مستشارين في مشروعات اقتصادية مختلفة. وبخلاف التمويل، يتم تقديم العديد من المنح الدراسية لتعزيز برامج التبادل الطلابي. وهذه المنح يتم تقديمها لعدد لا بأس به من السوريين في كل عام، مما يجعل من ألمانيا أكثر البلاد الأوروبية تأثيرًا في سوريا. فهذا تقدم ملحوظ إذا ما أخذنا في الاعتبار الغياب السابق للاهتمام الألماني بالاقتصاد السوري نتيجة للديون العامة المتراكمة التي كانت تعانيها سوريا في الماضي. 

آفاق جديدة

إذا حاولنا تحليل دوافع الشركاء الأجانب نحو دعم الاقتصاد السوري، ينبغي علينا أن نضع في الحسبان حقيقة مهمة مفادها أنه لا شيء يُعطى بدون مقابل. فمما لا شك فيه أن طموح تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يدفع إستراتيجيتها الاقتصادية الشاملة وطويلة الأمد نحو مزيد من التكامل الاقتصادي مع الدول المجاورة (القوقاز والبلقان والشرق الأوسط).

وبالنسبة لألمانيا التي تفخر بكونها أحد أكثر اقتصادات الاتحاد الأوروبي رخاءً، من المؤكد أن القطاع الخاص القوي والنشط والذي يبحث دائمًا عن المزيد من المكاسب يقف وراء الدافعية نحو تحقيق تكامل اقتصادي دولي. ويتجاوز التأثير الألماني الشئون الاقتصادية والمالية. فألمانيا تطمح أيضًا في تعزيز ثقافتها ولغتها خاصة في مراكزها الثقافية التابعة لمعهد جوتة.

وفي ضوء العوائق الحالية، يحتمل أن يواجه التحرير المستقبلي للاقتصاد السوري تحديات جديدة. والخسائر الكبيرة التي تكبدتها أسواق الأسهم بدبي الشهر الماضي يمكن أن تؤدي إلى نضوب تدفقات رأس المال التي تأتي من دول الخليج. وهذا يمكن أن يكون بمثابة عائق، إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن هذه التدفقات بلغت 750 مليون دولار أمريكي في عام 2007.

وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن نمو إجمالي الناتج المحلي الفعلي لعام 2009 يبلغ 3% وهو يقل بشكل ملحوظ عنه في عام 2008، حيث بلغ 6%. وهذا الهبوط يرجع في الأساس إلى تراجع أسعار النفط إلى ما دون المستوى المخطط له بالميزانية. وبالرغم من مشكلاتها الداخلية وصعوبة الظروف الاقتصادية الدولية، فإن الطريق الذي من شأنه أن يساعد سوريا على التقدم حاليًا يتمثل في الدخول في اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي. فمثل هذه الاتفاقية من شأنها أن تعزز إصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية.

font change