* مشكلة زياد ليست بمواقفه وإن كانت تشكل شيئاً من الإحراج لأي عاقل، إنما بموقف جمهوره منه أو بمقاربتهم للرجل.
ظهور الفنان زياد الرحباني الأخير على قناة «المنار» أثار استياء الكثيرين جراء اجتراره لنفس المواقف السياسية المؤيدة لنظام الأسد واعتباره «الصامد الأكبر» بوجه المؤامرات التي تحاك من قبل العم سام المتربص شرا «بالأمة العربية». ما لفت انتباهي هو أن كثيرين ممن عشقوا زياد لاعتبارات تقوم أساسا حول ميوله اليسارية التي يتشاركونها معه كانوا سباقين بانتقاد الفنان بشيء من القسوة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم أجمعوا على أن زياد سقط سياسيا وفنيا إذ إنه – حسب رأيهم - لم يقدم أي عمل يذكر في مدى الأعوام العشرة الأخيرة. وحالهم هنا كحال زوج اكتشف خداع شريكته له فجن جنونه وأفلت لسانه من عقاله. قاسية كانت بعض النعوت والأوصاف التي تناولت زياد إن كان من خلال بعض المقالات أو بعض التعليقات على مواقع التواصل. زياد فنان مثير للجدل طبعا، هكذا كان أول ما أطل على اللبنانيين في مسرحياته وألحانه وكتاباته وثورته على أعمال الأخوين الرحباني اللذين صورا لبنان في أعمالهما على غير ما هو. زياد أكثر شخص استطاع أن يعبر بدقة عن مرض النظام السياسي وعن الأمراض الاجتماعية التي بدأت تتفاقم في أوائل السبعينات من القرن الماضي والتي أفضت إلى حرب أهلية وجد نفسه فيها في صف «القوى اليسارية». وهذه التسمية أسبغت على كل الفصائل المسلحة المسلمة في وجه «اليمين» الذي كانت تمثله الميليشيات المسيحية. هذه التسمية لم تكن تعني أن أحدا من الأفرقاء المتقاتلين (باستثناء الحزب الشيوعي) يمثل أفكار اليسار الآيديولوجية أو تلك اليمينية. في خيال الجماعة زياد الرحباني توقع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في مسرحيته «نزل السرور». وهو من تلك اللحظة أصبح لكثيرين أكبر من فنان. أصبح لجيل كامل تقريبا بمثابة مرشد. ما يقوله زياد يحفظ عن ظهر قلب ويردد في كل مناسبة. حتى تقليد طريقة كلامه، سخريته أصبحت رائجة عند الجيل الصاعد. هذا الجمهور العريض المعجب بزياد جنح إلى حد المبالغة. لم يعد زياد لمعجبيه فنانا موهوبا فقط، له آراء سياسية كما الأعم الأغلب من الناس، بشكل يمكن أن يصيب في آرائه كما يمكن أن يخيب. بات كلامه معصوم من الخطأ، مواقفه لا تحمل الشك، نظرته للأمور السياسية فيها اليقين. أصبح ينظر له متتبعوه كمنظّر من الطراز الرفيع للماركسية واللينينية والاستالينية وهو مع ذلك لم يتمم دراسات جامعية تخوله لعب هذا الدور. المشكلة لم تكن فيما كان يقوله زياد (وما زال يردده)، مع العلم أن بعض ما يقوله بسيط ومضت عليه أزمنة وتطورات أفرغته من معانيه، كاعتقاده مثلا أن الصين تتحكم باقتصاد العالم بمجرد أنها قوة صناعية، متجاهلا أن من يتحكم بالعالم اليوم هو من يملك التكنولوجيا التي بدورها تتحكم بالصناعة. المشكلة إذن لم تكن في آراء زياد إنما في طريقة فهم وتلقي الناس لما يقوله كشيء غير قابل للنقاش وعميق وجدي. لم يظنوا للحظة أن أفكار زياد السياسية مراهقة. محبو زياد في لحظة الثورة السورية، ثورة الجائع على شلة «الرأسماليين الجشعين» الذين يتحكمون بموارد هذا البلد، أحسوا أنه خزلهم، وأنه لا يمثل في وجدانهم الذي احتله على أكثر من ثلاثة عقود هذا المثال اليساري الشغوف بالعدالة الاجتماعية لكل فقراء الأرض. اكتشفوا مع مواقفه المؤيدة لنظام الأسد أن زياد خدعهم، فقرروا نزع العصمة عنه. من هنا حدة الانتقادات والكلام عن عقم زياد الفني والسياسي. يبقى أن مشكلة تعظيم زياد للأسف هي مشكلة معممة في عالمنا العربي، وهي مشكلة الجماهير وتبعيتها للرموز والقادة والتي تشبعها العصمة من الخطأ، وتنزع عنها رداء الإنسانية لتجعل ما تقوله صوابا لا شك فيه، ما يجعل أي نقاش في الآراء نوعا من أنواع التجديف، لا بل سبب لعداء قد يتحول عنفيا في كل مراحله. من يستطيع اليوم مناقشة أفكار أمين عام «حزب الله» أو معارضته من دون أن يخون ويتهم بالعمالة، أو يشتم وربما يتعرض لأذى جسدي. من يستطيع أن يعترض على سياسات خامنئي من دون أن يصبح العدو رقم واحد للأمة جمعاء؟ مشكلة زياد ليست بمواقفه وإن كانت تشكل شيئا من الإحراج لأي عاقل، إنما بموقف جمهوره منه أو بمقاربتهم للرجل. زياد فنان قبل كل شيء وقيمته تبقى محصورة بفنه بمسرحياته أو بموسيقاه. وهو قد يبدع أحيانا كما قد يبتعد عن الإبداع في أحيان أخرى، ولا يمكن في كل الأحوال لهذا الإبداع الفني أن يسبغ على صاحبه صفات تفوق الصفات الإنسانية. في كتابه عن فرنسوا ميتران أحد أعظم رؤساء فرنسا، اكتشف جاك أتالي مستشاره وصديقه الشخصي علاقة ملتبسة بين الرئيس وعدد من الوجوه البارزة الفيشية خاصة رينيه بوسكيه الذي دعم بدايات ميتران في السياسة والذي كان مسؤولا عن إرسال اليهود الفرنسيين إلى محارق نازية إبان احتلال هتلر لفرنسا. هذا الاكتشاف لم يدفع أتالي إلى التقليل من أهمية ميتران كرئيس، كما لم يدفعه إلى شتمه لأنه أصلا لم يسبغ على هذا الرئيس صفة العصمة المطلقة. ميتران بالنسبة لأتالي كان إنسانا يخطئ ويصيب، فيمدح من دون تزلف وينتقد من دون كراهية.