جدة: في أبريل (نيسان) 1999، هبطت طائرة أمير الرياض- آنذاك- الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين بدعوة من عمدة الحكومة الشعبية لأمانة العاصمة الصينية بكين. وضم الوفد السعودي فريقاً من المسؤولين السعوديين المتخصصين بالبنية التحتية مع وفد تجاري. وأردف الملك سلمان زيارته الأولى، بتلبية دعوة صينية عام 2014، عندما كان ولياً للعهد، واستقبله الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ، وجرى توقيع 4 اتفاقيات استراتيجية. وقد اصطحب معه نجله الأمير محمد بن سلمان، الذي كان مدير مكتب ديوان والده ولي العهد، وذلك قبل شغله ولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء.
كانت تلك الزيارة فاتحة للحكم السعودي الجديد، وبخاصة شخص الأمير محمد بن سلمان، الذي تعرف على القيادة الصينية ولمس منها رغبة في المضي قدماً بتعميق العلاقات الثنائية والذهاب نحو الخروج من نطاق التبادل التجاري إلى ما هو أوسع من ذلك، وبدء علاقات شخصية وثيقة، كان لها أثر واضح في السياسة.
عندما نعلم أن الصين هي الوجهة الأولى للصادرات السعودية إلى العالم عام 2021 بقيمة 51 مليار دولار (أي نحو سدس إيرادات الميزانية السعودية أو نفقاتها في العام نفسه)، فإن ذلك يعني أن الصين هي الشريك الأكثر تميزاً بالنسبة للسعودية. أما بالنسبة للصين، فإنها أكبر مشترٍ للنفط السعودي (مع وجود موردين آخرين بسعر منخفض مثل روسيا)، مما يعني أنها شريك الطاقة الأكثر قيمة وموثوقية بالنسبة للصين في وقت تعتبر فيه السعودية العامل الاقتصادي ركناً أساسياً في علاقاتها مع الخارج. لكن، أليست السياسة هي الوجه الآخر للاقتصاد؟ فلو لم تكن العلاقات السياسية مستقرة، لما انتعش التبادل التجاري والتقني والعسكري بين البلدين.
محاطاً بالفرسان على الخيول، حظي الرئيس الصيني شي جين بينغ في زيارته إلى الرياض باستقبال الأباطرة، حيث لقيه ولي العهد السعودي، رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري. لقد أظهرت الابتسامات المتبادلة بين الزعيمين العربي والصيني، دفء العلاقات الثنائية.
وقد اختار الرئيس الصيني، صحيفة «الرياض» السعودية، لإطلاق مجموعة مفاهيم، تؤكد العمق التاريخي للعلاقات بين البلدين، ضارباً أمثلة عن رحالة صينيين زاروا الجزيرة العربية قبل مئات السنين، مذكرا بطريق الحرير التاريخي، الذي يبدأ من الصين، وصولاً إلى غرب آسيا وأوروبا. كما ركز على فكرة بناء الشراكة بين المجتمع الخليجي والعربي، بلغة توحيدية، والأهم هو الارتقاء بالشراكة الاستراتيجية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية، واصفاً دول الخليج بأنها «كنز الطاقة» في العالم.
نعرض فيما يلي جولة تحليلية لزيارة الرئيس الصيني، وهي الثانية له إلى المملكة وتأتي بعد زيارات رسمية سعودية إلى الصين، وكذلك استعراض آفاق العلاقات الثنائية. وما هو مغزى الرسائل السعودية-الصينية من وراء الزيارة. ولماذا تم عقد قمتين مشتركتين، عربية وخليجية، مع الجانب الصيني في هذا التوقيت؟
بين الاستقلالية وفرض الأجندات
تتميز العلاقات السعودية-الصينية، بالتكافؤ، وعدم شعور طرف بالتفوق على الآخر وفرض أجندات أو أدلجة. ليس لأي من البلدين آيديولوجيا محددة لقيادة العالم. ولعل الخلو من الأدلجة والتدخل في كيفية إدارة كل دولة لشعبها، ساهم بشدة في الدفع بالعلاقات لأعلى مستوى ممكن.
ومنذ الإعلان عن الزيارة، بدأت مراكز الأبحاث والدوائر السياسية الغربية في انتقاد الزيارة والتخوف من مضمونها ونتائجها. وعلى سبيل المثال، نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، مقالاً يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، يفصل المخاوف الأميركية، والغربية عموماً، من صعود العلاقات الصينية-السعودية. وتتركز تلك المخاوف في التعاون النووي والعسكري، وتهلهل العلاقات السعودية-الأميركية، مذكراً بصفقة صواريخ «رياح الشرق» عام 1988 وبناء مصنع المسيرات بالرياض عام 2017. وذكّر المقال بموقف الرئيس الأميركي، جو بايدن، لدى زيارته للمملكة قبل 5 أشهر، الذي خاطب الزعماء العرب بقوله: «لن ننسحب ونترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران.. الولايات المتحدة لن تذهب إلى أي مكان». وذكّر المقال، الذي كتبه سايمون هندرسون وكارول سيبلر، بأن أحداث هذا الأسبوع ستختبر هذا التعهد (تعهد بايدن).
هذا النوع من الخطابات، لم يعد يجدي. ففرض الأجندات والقيم على الدول، التي يصنفها الغرب على أنها أقل تحضراً منه، لا يفيد في بناء علاقات مستقرة وقابلة للتطوير. ويقول واقع الحال إن السعودية لن ترضى إلا بالتكافؤ في علاقاتها الخارجية.
لقد لمس الخليجيون، والسعوديون بخاصة، سهولة التخلي عن الأصدقاء من الولايات المتحدة. ألم يقل الرئيس الأميركي السابق أن الصين هي من يجب أن تحمي باب المندب؛ لأنها الزبون الأول للنفط الخليجي، وأن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى النفط الخليجي وحماية مساراته. لقد غير النفط الصخري الأميركي الكثير في أسواق النفط، ولم تعد السعودية تبيع سوى كمية قليلة من النفط إلى الولايات المتحدة. وقد واصل جو بايدن هجومه على السعودية بدعوى أنها صعبت حياة الأميركيين برفعها أسعار النفط!
وعند المقارنة، نجد الرئيس الصيني يركز في مقاله المنشور في صحيفة «الرياض» على «الصداقة الممتدة لآلاف السنين والعمل سوياً على خلق مستقبل جميل»، هو بالمناسبة عنوان المقال. إن هذه الروح الجديدة واللغة الجديدة واستذكار القيم المشتركة والتاريخ المضيء في العلاقات الثنائية مع السعودية والعرب. واستخدام عبارة «بناء المجتمع الصيني-العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد» في ثنايا المقال، يبرز لغة جديدة، تتوجه بها الصين إلى العرب من قلب السعودية، تؤكد على تشارك القيم والتاريخ والحاضر والمستقبل بين الصينيين والعرب. هذا الخطاب الودي، يبعث الطمأنينة في نفوس العرب. ويأتي ذلك على نقيض الخطاب الغربي، الذي يحمل منظومة قيم مختلفة، قد لا تلائم العرب في بعض تفاصيلها، واتخاذ تلك القيم الغربية بوصلة للعلاقات العربية-الغربية، وكأن العلاقات تمضي في اتجاه واحد؛ دون احترام لمفردات القيم والثقافة العربية.
إن تزامن مؤتمر القمة السعودية-الصينية مع قمتين أُخريين خليجية وعربية، يؤكد مجدداً على تزايد ثقل المملكة السياسي والاقتصادي، وأن لديها دوراً وازناً في رسم ملامح مستقبل العلاقات العربية-الصينية؛ ويؤكد على محورية دور الرياض في صناعة القرار العربي، وقيادة مستقبل العلاقات العربية مع التنين الصيني.
الصين في السعودية
دشن السعوديون والصينيون علاقاتهم الدبلوماسية الرسمية عام 1990؛ رغم أن التعاون بين البلدين، بدأ أواخر الثلاثينات من القرن الماضي. ومع مرور السنين، أزاحت الصين الغرب، تدريجياً عن المركز الأول للشراكة التجارية بين البلدين.
ومنذ عام 2007، دشنت الصين مكتب الاتصالات للشركات الصينية العاملة في المملكة. وبحسب الرئيس التنفيذي للمكتب، يانغ جي نوا، فإن عدد الشركات الصينية العاملة بالمملكة واصل النمو حتى بلغ نحو 200 شركة حالياً.
وبالفعل، تجد أن عمالقة الشركات الصينية مثل «هواوي»، و«علي بابا»، و«سينوبك»، وغيرها لديها مقرات أو مكاتب تمثيلية لاقتناص المزيد من الفرص في السوق السعودية. وفي يونيو (حزيران) الماضي، أطلقت خدمات الشركة السعودية للحوسبة السحابية، التي جاءت كثمرة تحالف صيني-سعودي، شمل كلا من شركات «علي بابا» لخدمات الحوسبة السحابية (التي وعدت بضخ نصف مليار دولار خلال 5 سنوات) ومجموعة الاتصالات السعودية، وشركة «Arabia Capital»، والشركة السعودية للذكاء الاصطناعي، والشركة السعودية لتقنية المعلومات.
وقال رئيس اتحاد الغرف السعودية، عجلان العجلان، في تصريح لوكالة الأنباء السعودية: «إن البلدين يرتبطان بعلاقات اقتصادية وتاريخية متينة، حيث تعد الصين الشريك التجاري الأول للمملكة. كما نما حجم التبادل التجاري خلال العام 2021 بنسبة 37 في المائة ليصل إلى 304.3 مليار ريال (81 مليار دولار)، وبذلك تستحوذ المملكة على نحو 26 في المائة من التجارة الخارجية للصين مع الدول العربية، حيث تعد أكبر شريك للصين في غرب آسيا وشمال أفريقيا، فيما بلغ حجم استيراد وتصدير البضائع بين البلدين من يناير (كانون الثاني) إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2022 ما قيمته 358 مليار ريال (95.5 مليار دولار) مما يعكس قوة وتنوع التجارة بين البلدين».
ويقول باحث صيني (فضل مناداته باسم جون) التقته «المجلة» قبل فترة بسيطة في عاصمة عربية: «تعول الصين على السعودية كركيزة أساسية لتوثيق العلاقات مع العالم العربي. وبدءاً من العام الجاري، أتوقع أن لا يقل التبادل التجاري بين البلدين عن 100 مليار دولار. صحيح أن الميزان التجاري راجح لصالح السعودية، إلا أن فرص الشركات السعودية والصينية، تعد ولا تحصى بين البلدين».
ولأن الأرقام هي المقياس الحقيقي للأداء التجاري، فإن رقم 1.2 تريليون ريال (320 مليار دولار) الذي يمثل حجم التبادل التجاري بين البلدين بين 2017-2021 ليس رقماً يمر مرور الكرام. إنه دلالة واضحة على نمو غير مسبوق في مختلف مجالات التجارة والصناعة.
كما أن المملكة جزء رئيسي من مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تركز على استثمارات البنية التحتية بتريليونات الدولارات. ووقعت الشركات السعودية في هذه الزيارة اتفاقات بقيمة 110 مليارات دولار (نحو 29.4 مليار دولار)، وكلها تصب في تعزيز التبادل التجاري، وسوف تظهر نتائجها تباعاً.
أين الثقافة والسياحة؟
تمثل الثقافة ركناً هاماً في العلاقات السعودية-الصينية. فقد استشهد الرئيس الصيني بينغ بحديث ورد في الأثر عن النبي محمد: «اطلبوا العلم ولو في الصين»، مسترجعاً ذكرى العديد من الرحالة العرب والصينيين عبر التاريخ، الذين شكلوا مادة خصبة للقصص والخيال الإبداعي.
تقوم الصين بتدريس اللغة العربية وآدابها في نحو 40 جامعة صينية، كما تدرس 4 جامعات سعودية اللغة الصينية، وأصبحت الصينية مادة اختيارية في 8 مدارس سعودية للتعليم الأساسي.
وقد أشاد الرئيس الصيني بمسلسل «حكيم وكونغ شياو شي» الكرتوني، وهو من إنتاج صيني-سعودي مشترك.
إن الحاجة إلى التعريف بالثقافتين العربية والصينية أصبحت ملحة، فمستهلكو الثقافة العرب والصينيون لا يعرفون الكثير عن البلدين. إن الدراما والمسرح وتنشيط حركة الترجمة، أمور أساسية لتعزيز العلاقات الصينية-السعودية، وربما إنتاج اقتصاد ثقافي بين البلدين، وهو منطقة لا تزال مجهولة ويمكن توجيه الاستثمارات إليها.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قال وزير السياحة السعودي، أحمد الخطيب، إنه «يعلق الأمل على السياح الصينيين»، لتعزيز السياحة في المملكة.
إن تعزيز ترويج الوجهات بين البلدين، يساهم بالضرورة في تعزيز الناتج السياحي وتعميق العلاقات الشعبية بين البلدين.
وذات مرة قالت سائحة صينية لـ«المجلة»: «أرجو من كل قلبي أن أزور منطقة العلا مرة أخرى. السحر فيها لا يقاوم». فمتى نرى تدفقاً أكبر للسياح الصينين إلى المملكة وتأخذ المملكة حصتها من 140 مليون سائح صيني سنوياً.