الإسكندرية: من أهم القضايا التي تشغل المؤسسات الدولية والمجتمع العالمي اليوم قضية التراث والرقمنة، خاصة مع ما يشهده التراث الإنساني من تهديد حقيقي يتمثل في اندثاره بما يمثل قضاءً على حقوق الأجيال المستقبلية، إذ إن التراث يمثل إرثاً إنسانياً عالمياً .
وقد دعت منظمة اليونسكو المجتمع الدولي والفاعلين الدوليين والخبراء إلى تعزيز وتنفيذ الآليات الفعالة من أجل حفظ التراث الإنساني في كل مكان في العالم .
وتعد الرقمنة وتوظيف التكنولوجيا المتطورة من أهم الآليات التي تستخدم في حفظ التراث بأشكاله المختلفة في أماكن مختلفة من العالم، حيث لا بد من تبادل الخبرات وتوفير الإمكانيات المختلفة من أجل حفظ التراث الإنساني، وهذا ما أكدت عليه النسخة الثانية من المؤتمر الدولي «من الحجر إلى الكتابة ومن الكتابة إلى الرقمنة»، الذي نظمته جامعة سنجور ومكتبة الإسكندرية بالتعاون مع عدة جهات دولية وشارك فيه خبراء من أميركا وأوروبا و العالم العربي وأفريقيا.
التراث قيمة دولية تخص المجتمع الإنساني العالمي
في تصريح خاص لـ«المجلة»، أكد أستاذ التراث في جامعة سنجور، جان فانسوا فاو، أن التراث قيمة دولية تخص الإنسان، ويجب إيجاد وتفعيل الآليات والوسائل الفعالة من أجل الحفاظ عليه .
ولفت إلى أهمية المؤتمر الذي يعد حدثاً يجمع من الخبراء الدوليين وتنظمه مكتبة الإسكندرية وجامعة سنجور بالتعاون مع عدة مؤسسات دولية، منها مع الوكالة الجامعية الفرنكفونية (AUF)، والمعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة (IFAO)، والمركز الدولي لدراسة صون وترميم الممتلكات الثقافية (ICCROM) ومؤسسة غندور للفنون.
وشدد على أن هذا التجمع يعكس قيمة قضية التراث وأهميتها دولياً.
وتطرق إلى الحديث عن القضاء على التراث وتدميره عبر الصراعات في الدول المختلفة في العالم العربي والشرق الأوسط، وما تنفذه الجماعات المتطرفة الإرهابية من قتلٍ للإنسان وللتراث والتاريخ .
واستشهد بوصف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لما تقوم به تلك الجماعات المتطرفة من الجرائم الشنيعة المتمثلة في اغتيال تراث الإنسانية بأنها جريمة دولية.
وتابع: «التراث يعني الكثير والفريد ومن دونه يكون الإنسان بلا هوية بلا جذور، كما أنه يخص الإنسانية كلها ولا يخص شخصاً بعينه ويرتبط بالجانب الروحاني للشعوب والبشر».
وأكمل: «فالمصحف الشريف إلى جانب تقديسه من جانب المسلمين، لكنه يعني أيضاً الكثير للعديد من الشعوب فهو تراث إنساني يخص العالم أجمع ، لذا يجب حمايته وحفظه».
خطورة الصراعات وتدميرها للتراث العالمي
وحذّر فاو من خطورة ما تنفذه الجماعات الإرهابية في الدول العربية التي تعاني من الصراعات مثل سوريا وليبيا واليمن، قائلاً: «الجماعات الإرهابية تغتال الفكر والثقافة وتدمر المتاحف والآثار والمخطوطات، وكل ما يخص البشرية من تراث إنساني نادر تذخر به الدول العربية بشكل عام».
وحول آليات وطرق الحفاظ علي التراث وأهميتها، قال إن «طرق حفظ التراث تنقسم إلى قسمين، أحدهما إنساني يرتبط بالجانب الروحي والإنساني للتراث، ومن ثم يجب أن نحفظه في أنفسنا بشكل إنساني، لأننا نرتبط ببعض الأشياء لمجرد أنها تخص أجدادنا، وهكذا هو التراث، لذلك يجب أن نحافظ على الحس الإنساني والبشري له» .
وأشار إلى أن الطريقة الثانية تتمثل في حفظ التراث من خلال الرقمنة وهي تتمثل في توظيف التقنيات الحديثة في حفظ كل ميراث البشرية ليبقى للأجيال القادمة .
الرقمنة وحفظ التراث الافريقي
وأكد المشاركون المتخصصون الدوليون من أفريقيا والعالم العربي وأوروبا خلال فعاليات المؤتمر، على أهمية الحفاظ على التراث الذي يمثل الهوية المميزة للشعوب .
ومن جانبه، أوضح الباحث في التراث والتاريخ في جامعة CY Cergy في فرنسا وجامعة Warwick في بريطانيا، جان بول سي لوسون، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، أهمية توظيف الرقمنة والتقنيات المتطورة في الحفاظ على ما نملكه من تراث وآثار.
وتحدث عن مشروع بوابة رقمية تحفظ التراث في غرب أفريقيا تنطلق من تساؤل: «تمكين المتاحف في غرب أفريقيا من تجاوز الشبكات الاجتماعية البسيطة، واستغلال الموارد الرقمية لحفظ المجموعات المختلفة يمكن الوصول إليها من خلال الإنترنت، وتساهم بفاعلية في حفظ التراث الإنساني بألوانه المختلفة».
المكتبات ودورها في حفظ التراث الإنساني
كما تحدثت رئيسة قطاع المكتبات في مكتبة الإسكندرية، دينا يوسف، لـ«المجلة»، عن دور المكتبات في حماية وحفظ التراث الإنساني. ودللت على أهمية التراث بكلمة ماركوس غارفي: «الشعب الذي لا يعرف تاريخه وأصله وثقافته الماضية يشبه شجرة بلا جذور».
وأضافت أن «المكتبات تمثل قوة دافعة لبناء مجتمعات المعرفة، فهي تحافظ على المعرفة بما يساعد على فهم الماضي ويعطينا أساسا قويًا للحاضر، لذا لا بد من دعم المكتبات لتعزيز الثقافة وحماية التراث وإتاحة الوصول إليه لصالح مجتمعاتهم اليوم وغدًا».
وتابعت أن «الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات يدعم المكتبات، وأن المكتبات لها دور رئيسي في دعم الثقافة وكل من الإبداع المعاصر وتراث الماضي بطريقة تعزز التنمية المستدامة الشاملة. بالإضافة إلى تركيزها الأساسي على الأدب والأعمال الوثائقية الأخرى، حيث تشارك المكتبات بشكل متزايد عبر مجموعة واسعة من الأعمال الملموسة والوثائقية».
وأكّدت أن المكتبات هي مفتاح البنية التحتية الثقافية لأي مجتمع، وأنها تحافظ على التراث وتمكين الناس من الاستمتاع والتعلم والإلهام لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية.
أحمد باشا كمال
من جانبه أكد مدير مركز دراسات الخطوط في مكتبة الإسكندرية الدكتور أحمد منصور في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، على أهمية الفعاليات التي تجمع نخبة من المتخصصين من دول عدّة. وأضاف أن مكتبة الإسكندرية توظف التقنيات الحديثة والمتطورة لرقمنة التراث.
وأوضح أن عام 2023 سيشهد مرور 100 عام على رحيل أحمد باشا كمال 1851-1923م، أول مؤرخ مصري عربي يكتب في تاريخ مصر وحضارتها القديمة كتابة علمية سليمة، وعلى يديه ظهر جيل من كبار علماء التاريخ والآثار، وأصبح رائدًا للمدرسة المصرية في الدراسات الأثرية، وهو الذي ألف العديد من الكتب القيمة، وله أبحاث كثيرة باللغتين العربية والفرنسية والتي نشرت في المجلات العلمية، وأهم أعماله هو معجم اللغة المصرية القديمة والذي أهدته عائلته الكريمة إلى مكتبة الإسكندرية عام 2020 لكي يتم ترميمه ورقمنته وحفظه ثم عرضه في متحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية.
وأشار إلى أن أحمد باشا كمال، هو مؤسس المدرسة الوطنية في علم المصريات، وشيخ الآثاريين المصريين. وُلد من أسرة عريقة، في 29 يونيو (حزيران) 1851 بالقاهرة، وترجع أصوله لجزيرة كريت، عاش وتعلم في المدارس المصرية، وتزوج من السيدة فاطمة خورشيد وهي من أسرة أصيلة وأنجب ثلاثة أبناء من الذكور، وثلاثا من الإناث، وفي 29 سبتمبر (أيلول) 2020 ثقةً منها في المكتبة لتقدير مكانة هذا العالم المصري الفذ، وتقديرًا لتضحياته ليكون للمصريين التحكم والسيطرة على كنوز أجدادهم القدماء، بعدما باءت محاولاته بالفشل لنشر هذا القاموس قبل وفاته، قامت مكتبة الإسكندرية بوضع خطة عمل تقوم على اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة من ترميم وصيانة المعجم بالأساليب الحديثة، ومن ثمَّ حفظه في مكتبة الكتب النادرة بالمكتبة، وعرض بعض الأجزاء للجمهور، فضلاً عن رقمنة المعجم لسهولة الاطلاع عليه من قبل أكبر عدد من المستخدمين لزيادة الاستفادة منه. وبالإضافة إلى ذلك التحقيق العلمي للمعجم وإعادة نشره.